تركيا

الجامع الأخضر في بورصة، تركيا: تاريخ، هندسة وزخرفة عثمانية مدهشة

إن الازدهار الذي وصلت إليه الإمبراطورية العثمانية أرخى بظلاله على جميع مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية والسياسية والعسكرية، مما أدى إلى نبوغ حضاري لا يقل في علوه وقيمته عن المجد الذي بلغته الدولة الإسلامية في عصرها الذهبي خلال مرحلة حكم هارون الرشيد العباسي، وكان مما أولى له العثمانيون الأهمية القصوى هو بناء المساجد والمجمعات الدينية حتى صارت المدن تنافس بعضها فيما تتوفر كل واحدة منها عليه من مساجد ومدارس دينية وأضرحة ومستشفيات ومكتبات علمية عالية القيمة، بل إن مدنا كأنقرة وإسطنبول تجاوزت منافسة غيرها لتتنافس مناطقها المشكلة لها بعضها في هذا السباق المعماري، وفي هذا الصدد سنتعرف في مقالنا هذا عن المسجد الأخضر أحد أشهر المعالم الدينية والسياحية التي خلفها العثمانيون كرمز لتقدم حضارتها المهيبة في تركيا.

المسجد الأخضر

يتربع المسجد الأخضر عند سفوح جبل أولوداغ كأنه لوحة فنية نسجت بتفاصيل معمارية أذهلت الأفئدة وسحرت الأبصار وخلبت العقول وأدهشت الأذهان، فجمعت إلى جانب جمالها الأخاذ أجواء روحانية منحته قدسية خاصة لدى الأتراك.

يقف هذا المسجد العظيم شامخا كأحد أبرز الرموز الحضارية التي خلفتها الإمبراطورية العثمانية، وهو أحد المكونات الرئيسية لمجمع يشيل الديني المعماري الضخم، والذي يضم كذلك مدرسة لتدريس مختلف العلوم الدينية، وضريح السلطان محمد جلبي المعروف باسم ضريح الحميدي.

يعتبر المسجد الأخضر من أهم المعالم التاريخية التي تجسد بداية التحول في طرق البناء في عصر الإمبراطورية العثمانية، إذ كانت المباني قبله تشيد على الطراز الإسلامي الكلاسيكي مع مزجه بالأسلوب القوطي، إلا أنه اعتمد في تصميمه ومعه مآثر أخرى على الطراز المعماري العثماني، والذي يتجلى في التصميمات الجديدة المبتكرة المندمجة مع تقنيات وخصائص فنون البناء السلجوقي.

بنيت هذا الصرح المعماري المهيب الذي صار أيقونة هندسية في القرون اللاحقة عند تقاطع الجبال على سفح تلة تطل على مدينة بورصة التركية، مما يتيح لزواره الاستمتاع بإطلالة بانوراميا ساحرة تمكنهم من مشاهدة المدينة وكل ما يجري فيها، دون نسيان المناظر الطبيعية المحيطة به، مما يرفع قيمة تجربة الزيارة لمستوى خرافي.

احتل المسجد الأخضر مكانة رفيعة خلال العهد العثماني لكونه أولا مكانا للعبادة والصلاة، وباعتباره ثانيا أهم مكونات مجمع يشيل الديني، فصار مركزا حيويا للحياة الدينية والعلمية في مدينة بورصة بشكل خاص، وأحد أشهر المراكز الاجتماعية في الإمبراطورية بشكل عام، وقد أصبح اليوم في ظل الدولة التركية الحديثة مكونا رئيسيا من مقومات الهوية الوطنية، ومعلما سياحيا ووجهة دينية يستقطب نحوه ملايين الزوار على مدار العام.

موقع المسجد الأخضر

يقع المسجد الأخضر على تلة عند سفح جبل أولوداغ في حي يشيل ميهاليسي (المنطقة الخضراء) في مدينة بورصة التركية، ويبعد عن ضريح السلطان محمد الأول جبلي العثماني مسافة 50 مترا، فيما تفصله مسافة كيلومترين عن سوق كوزا خان التقليدي العريق.

التأسيس والتصميم

أسس المسجد الأخضر في ظل حكم السلطان محمد الأول في الفترة الزمنية الممتدة من 1419م إلى 1421م، وقد شيد هذا الجامع العظيم باعتبارها رمزا لتوحيد الدولة العثمانية بعد دخولها في مرحلة من الصراع الداخلي الذي عاشته البلاد بعد وفاة السلطان العثماني بايزيد الأول.

أشرف حاجي إيفاز باشا وهو معماري بالغ الشهرة في الإمبراطورية العثمانية على تصميم وبناء المسجد الأخضر، وقد بذلت الدولة الأموال الطائلة من أجل أن يخرج هذا الصرح المعماري تحفة وايقونة معمارية خالدة وهو ما حدث بالفعل.

الجمال المعماري في المسجد الأخضر

  • الواجهة

لا يمكن لمن زار المسجد الأخضر عند الوقوف قبالته إلا أن ينبهر ويسحر بمشهده الخارجي الباعث على الشعور بالهيبة والرهبة، إذ يعكس تصميمه أناقة مع بساطة معمارية زادها اللون الرملي الفاتح الذي يطغى على مكوناته روعة وبهاء.
تمتاز واجهته بالجاذبية الجمالية المثيرة للإعجاب، فقد زينت الجدران من الخارج بالزخارف العثمانية والإسلامية العريقة، وهي تظهر على شكل نقوش دقيقة وأشكال هندسية ونباتية تم نحتها وحفرها بدقة وبراعة، مما يؤكد تفوق البنائين والنحات في الهد العثماني فيما يتعلق بفنون البناء والهندسة.

  • الباب الرئيسي

يعد الباب الرئيسي للمسجد الأخضر كلوح معماري فخم يزيد من هيبة المكان روحانيا، ويظل قائما كأنها حارس على بوابة زمنية تنقل العابر منه إلى الأيام الخوالي من القرن الخامس عشر للميلاد، وهو في حد ذاته أحد أروع الهندسية التي تستحق التأمل.

صنع هذا الباب من الخشب المصقول، وقد تم تزيينه بالنقوش المعقدة والأشكال الهندسية والنباتية كما هو شأن المسجد ككل، مما جعله يتسم بجمالية الزخارف المتناسقة مع بعضها البعض مشكلة مشهدا بصري آسرا للأعين والأبصار.

فوق الباب الرئيسي، تنتشر خطوط عربية من آيات قرآنية بخط الثلث، تعلن للمقبلين عليه أنهم على وشك دخول فضاء مقدس تتجلى فيه كلمات الله بين نقوش الفن.

خطت في أعلى الباب كتابات دينية منمقة بالعربية عبارة عن آيات من القرآن الكريم وعبارات ترفع من مكانة السلطان محمد الأول العثماني تخليدا وافتخارا به، وتتميز بكونها مذهبة صيغت بخط الثلث العثماني.

وضع قوس مزخرف على امتداد الباب الرئيسي كتاج له وللواجهة ككل، وهو يجسد فخامة ورقي فن العمارة العثماني الإسلامي، وتشكل البلاطات ذات اللونين اللامعين الأخضر والزرقاء زينته، مما جعل مظهره البصري أكثر تناغما وسحرا.

  • مئذنتا المسجد الأخضر

يضم هذا المسجد الفائقة الروعة مئذنتان تنتصبان مثل رمحان قد اتجهتا نحو الأفق العالي تطالعان الفضاء الرحب الفسيح، وكلاهما تنظر للأخرى في فخر واعتزاز لما تتصفان به من جمال تفنن المعماريون العثمانيون في وسمهما به.

المئذنة الأولى

ترتفع المئذنة الأولى عن سطح البحر بقرابة 45 مترا، وهي تقف على اليمين من المسجد الأخضر، وتكاد نحافتها واستقامتها تظهرها كسهم ثاقب أكثر من برزها كرمح يعانق عنان السماء، وهي تقف على قاعدة ذات شكل يتراوح يقترب من المربع بقدر ما يميل إلى الأسطواني.

زينت هذه المئذنة بالنقوش الدقيقة المنحوتة على الحجر مع زخارف لأشكال هندسية مميزة، وهي تضم شرفة المؤذن المخصصة للآذان، وهي محاطة بدرابزين مزخرف تمت صناعته بواسطة الحجر، وقد أبدع الحرفيين العثمانيين في بناء هذه المئذنة وكسوا سطحها بالحجر الرمادي، مما خلق تناغما بصريا مذهلا، واندماجا مثاليا مع مكونات المسجد هندسيا وجماليا.

المئذنة الثانية

يصل ارتفاع المئذنة الثانية هي أيضا حوالي 45 مترا، ولا تختلف كثيرا عن شقيقتها في النحافة والاستقامة، وتتميز بالمخروط الرصاصي الذي يعلوها عند القمة، والذي يزداد لمعانا كلما سلطت عليها أشعة الشمس.
بنيت هذه المئذنة على قاعة صلبة، وتتدرج فيها الزخارف من الأسفل إلى الأعلى عبارة عن نقوش دقيقة بسيطة لأشكال نباتية على عكس زخارف أختها، وهي تضم درج حلزونيا ضيقا مثل المئذنة الأولى تماما، وتحتوي على شرفة مزينة بدرابزين حجري ناعم.

  • السقف الخارجي

إن السقف الخارجي للمسجد الأخضر هو أهم مكوناته وأبرز أجزائه التي اشتهرت لدى مواطني الإمبراطورية العثمانية، خاصة عند سكان حاضرة البلاد آنذاك التي أصبحت اليوم هي تركيا، فمن هذا السقف جاءت تسمية هذا الصرح المعماري البديع.

سمي المسجد الأخضر بهذا الاسم لأن سقفه عند اكتمال بنائه وعلى مدار قرون طويلة كان مغطى ببلاط ذو لون فيروزي أخضر مصنوع من الخزف، ويمتاز هذا البلاط والسقف ككل باللمعان الشديد عندما تسلط عليه أشعة الشمس عند الشروق والغروب، مما يكسبه منظرا بصريا ساحرا، ويمنح المسجد قاطبة مشهدا أسطوريا بكل ما تحمل الكلمة من معنى.

  • الأعمدة الخارجية

تقف عند كل زاوية من الزوايا الأربعة لواجهة المسجد الأخضر مجموعة من الأعمدة الحجرية التي تنتصب من الأرض حتى نهاية الجدران وكأنها فرسان كلفوا بحماية هذا المعلم الديني، وتقوم وظيفتها الأساسية في كونها تمثل الدعائم التي يقف عليها البناء ككل، وإن كانت منحته قوة مظهر واضحة لمن تأملها.

  • الساحة الخارجية


رصفت الساحة الخارجية قبالة المسجد الأخضر بالحجارة والحصى الداكن اللون، وقد تم الاهتمام بها بعناية تامة لتكون جزءا لا يتجزأ من مكونات المشهد العام لهذا الجامع، كما أنها تعد منطقة التوقف للتأمل في الهيكل المعماري لهذه التحفة البهية.

  • الفناء الداخلي

فور أن يتجاوز الزائر للمسجد الأخضر باب الرئيسي يجد نفسه أمام فناء عبارة عن ساحة فسيحة اصطبغت بلون الزمرد الفاتن، وقد بلطت جدرانه ببلاطات زجاجية كزينة تغطيها على امتدادها من الأرض الصلبة حتى سقفها المزين ببعض الزخارف، وينتج عن هذه البلاطات ضوء خافت منعكس منها في أرجاء الفناء كلها، مما يوقظ الإحساس الروحاني لدى الواقفين به، ويستحث لديهم إحساس الخشوع.

  • القبة الرئيسية

تعد القبة الرئيسية في مسد بورصة الأخضر أيقونة جماله، ومتم الروعة والحسن فيه، وهي ترتفع عن الأرض لعلو يصل إلى 25 مترا، اكتسبت به عظمة المظهر، ويبلغ قطرها 13 مترا، أعطاها اتساعا وفخامة، وقد أحيطت بأربع قبب تصغر حجما وتحفها من الجهات الأربع كأنهن وصيفات لأميرة متوجة، وزينت جميع القباب الخمس بالنقوش الدقيقة والأشكال الهندسية والنباتية، وصبغت باللونين الأخضر والأزرق، مما جعلها تتماهى مع الجمال البصري العام لهذا الجامع العريق.

  • المحراب

صمم محراب المسجد الأخضر على الطراز السلجوقي مع بروز تحسينات الفن العثماني عليه، وهو مقوس الشكل في فخامة تظهر روعة الفن وبراعة البناء، ونظرا لقيمته ومكانته ورغبة في جعله أيقونة قائمة بالذات تم كسوه بالبلاط الأخضر كاملا، كما زين البلاط بخيوط ذهبية منحته مظهرا ملكيا.

  • المنبر

تحظى المنابر في جميع الحضارات الإسلامية بمكانة رفيعة تظهر جلية في الاهتمام البالغ بها أثناء صناعتها، ولم يخرج منبر المسجد الأخضر عن هذه القاعدة، إذ تمت صناعته من الرخام الأبيض، وزين بخطوط مذهلة كأنها تصور الفضاء السماوي، فيما وضع أعلاه قوس مزخرف بدقة متناهية تتجسد في الأشكال البديعة للورود والنجوم السداسية.

  • النوافذ الملونة

تلعب النوافذ الملونة التي تنشر في أماكن مختلفة على جدران المسجد الأخضر دورا كبيرا في جعل مشهد البصري مكتملا لدرجة لا يمكن تصورها، فهي تساهم في ابراز جمالية تفاصيله المعمارية من خلال أشعة الشمس المتسللة عبرها نحو الداخل، كما أنها هي نفسها مزينة بزخارف نحتت عليها بطريقة مبتكرة للغاية.

الجمال الطبيعي المحيط بالمسجد الأخضر

الحدائق الصغيرة

يكتمل جمال المشهد الخارجي لهذا المسجد المهيب باللمسة الطبيعية التي تتجلى في حدائق غناء صغيرة تحيط به، تنمو فيها أشجار الزيتون والسرو والرمان، مما يضفي رونقا خاص عليها، ويخلق تناغم بين الطبيعة والعمارة، وهي تتيح لضيوفه الاستمتاع بأجواء من السكون والهدوء.

النوافير الحجرية

شيدت وسط الحدائق وفي أماكن متفرقة على مقربة من المسجد مجموعة من النوافير الحجرية التي لا زالت منتصبة حتى يومنا هذا، وتتدفق منها المياه العذبة التي يرتوي منها الوافدون على هذا الجامع، كما أنها مبنية باحترافية أضافت على المشهد البصري الطبيعي بهاء مختلفا.

الممرات الحجرية

تمتد الممرات الحجرية المرصوفة بالحصى والحجارة الصغيرة خارج المسجد متمثلة في مسارات متنوعة يعبرها الناس للوصول إليه، وهي تمتاز بالاتساع والرحابة، وتوجد على جوانبها المقاعد الحجرية المخصصة للجلوس مظللة بالأشجار.

إن المعالم التاريخية التي تركها العثمانيون عبارة عن مجموعة من الصروح المعمارية العظيمة، ولا يقل أي واحد منها قيمة ومكانة عن الآخر، وما المسجد الأخضر إلا نموذجا بارزا على قمة التقدم الذي وصلت إليه فنون العمارة والبناء في ظل الإمبراطورية العثمانية، وهو مأثرة دينية وموقع سياحي يستحق الزيارة مثله مثل المسجد الأزرق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *