الصين

مدينة بينغياو القديمة في الصين

عندما تنغلق الأفاق وتلتهم الحياة الصاخبة الناس أفراد وجماعات، ولا يجدون أمامهم غير الحدائق سلوا، ودونهم القرى الريفية ملاذا، فإن المدن القديمة بجلال عمرانها، ونقاء سريرة من سكنوا بها، وجمال الطبيعة التي تحفها من كل جانب، ورعة فنون البناء التي تتجسد فيها على الأزقة وبالجدران كأنها فوارس على رواكب، ولطالما كانت هذه الأماكن العتيقة رمزا لتاريخ مجيد، ومواقع تصمد صونا للإرث التليد، فيها تحفظ ذاكرة الشعوب والأمم، وهي كالسجل ما إن يفتح حتى تهتز لذلك الهمم، وفي الصين بلاد الإمبراطورية الشرقية البائدة، مدن قديمة تشهد على علو كعب حضارات ذات زمن كانت خالدة، وهناك سنغوص مستكشفين المدينة القديمة في بينغياو العتيقة، ونتعرف على موروثاتها القيمة العريقة.

المدينة القديمة في بينغياو

إن المدينة القديمة في بينغياو هي إحدى أعرق المدن التقليدية في الصين، وهي عبارة عن نافذة مفتوحة للتعرف واستكشاف الثقافة والإرث المجتمعي الصيني، واللذان لا يزالان محفوظان داخل أسوار هذه الأيقونة المعمارية الصامدة أمام تقلبات، والتي لا تزال شامخة في فخر بعد قرون عدة.

تعد هذه المدينة الكلاسيكية من بين أفضل الأماكن القديمة المحفوظة وذات الجمال الطبيعي والمعماري الساحر للعيون والآسر للعقول، مما يجعلها تصنف ضمن الجواهر النفيسة كمواقع تراثية بالغة الأهمية في إمبراطورية التنين.
تتجسد هذه التحفة التقليدية كمثال بارز على روعة العمارة الصينية القديمة، فهي تضم أزقة ضيقة مرصوفة بالحجارة، وأسوار عالية تعانق عنان السماء، ومنازل ومباني خشبية تجعل الناظر إليها جامدا من درجة الانبهار، ومعابد عتيقة تتمثل فيها حرفية وإبداع الصينيين في فنون البناء.

تمتاز المدينة القديمة في بينغياو بمكانتها التاريخية والاجتماعية العالية للغاية، إذ أنها شهدت ازدهار كبيرا حولها لمركز تجاري مهم جدا، كما أن عمارتها التقليدية أكسبتها قيمة زائدة ومختلفة، إضافة لأدوارها الدينية التي اشتهرت بها، فكان ولابد لمكان عريق اجتمعت فيه كل هذه المواصفات أن يحظى باهتمام كبير جعلها تدرج ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو عام 1997.

تمتد هذه المدينة على مساحة تصل إلى 2.25 كيلومتر مربع، مما يجعلها واحدة من أصغر المدن القديمة في الصين، وهي تضم قرابة 4000 مبنى شيدت جميعها على الطراز التقليدي، كما أنها تم تسويرها لضمان الجانب الدفاعي، إذ بنيت على طول سورها مجموعة من الأبراج تفصل بينها مسافة 50 مترا.

أسوار المدينة القديمة في بينغياو

إن أول ما يلفيه الزوار أمامها عندما يقتربون من المدينة القديمة في بينغياو هو سورها العتيق، والذي يعتقد أنه أحد أقدم أسوار مدن الصين الذي لا يزال قائما محافظ على معالمه الأصلية، ويمتد طول على مساحة تقدر بحوالي 6 كلم، فيما يبلع عرضه 5 أمتار، أما عن ارتفاعه فيتفاوت بين 10 إلى 12 مترا لاختلاف الارتفاع في بعض النقط منه.

رغم أن سور المدينة القديمة يظهر وكأنها حزام حجري صلب ذو متانة وصلابة تمنح البلدة مظهرا مهيبا وقوة دفاعية خالصة، إلا أنه في الحقيقة عبارة عن مجموعة من الأسوار المتراصة معه بعضها بشكل متقن أدى لتجسدها على شكل واحد منسجم تماما.

بدأت أعمال البناء في هذا السور العتيق ذو المظهر العظيم الباعث على الرهبة خلال مرحلة حكم سلالة تانغ، وتوقفت الأشغال أكثر من مرة، غير أنه اكتمل بشكل نهائي في مرحلة حكم أسرة مينغ خلال القرن الرابع عشر للميلاد.

شيد سور المدينة القديمة بواسطة الطين المدكوك والطوب الترابي بحرفية ودقة متناهية توضح بالملموس براعة الحرفيين الصينين في فنون البناء القديمة، وتعتليه عدة أبراج صغيرة يصل عددها إلى 72 برجا، وهي تجسيد لبعد النظر العسكري في الصين القديمة، كما أن شكله الهندسي عرضيا يتيح للعربات والمشاة والخيول العبور من خلاله.

بوابات المدينة القديمة في بينغياو

يلج الزوار إلى المدينة القديمة عبر أربعة بوابات انتصبت كل واحدة منها في فخر وهيبة عند الجهة من الجهات الأربع لها، وقد أولى الصينيون الاهتمام البالغ لجعل هذه البوابات آسرة للأذهان باعثة على الاحترام والوقار، وقد زينت بالزخارف التقليدية التي زادت جمالا وروعة.

  • البوابة الجنوبية

تعد هذه البوابة أشهر بوابات المدينة القديمة، إذ شيدت على شاكلة الأسلوب المعماري الذي بنيت به القصور الإمبراطورية، فاكتسبت بفضل ذلك فخامة ملكية في المظهر، ومنحتها النقوش التقليدية والرموز المنحوتة عليها تناغما استثنائيا مع المشهد البصري لواجهة المدينة الخارجية ككل.

كانت هذه البوابة هي المعبر الذي يدخل من خلاله التجار الأجانب الوافدون على المدينة القديمة، كما أن الطريق المؤدي إليها في القرون الأولى التي لحقت تشييد المدينة يمتد ليربطها بالمرافئ النهرية الخاصة بالنقل التجاري آنذاك والطرق التجارية القريبة منها.

تضم هذه البوابة التي يطلق عليها بوابة يينغ شون برجا في الأعلى منها يحتوي على أسقف مزدوجة، وقد زين بأشكال هندسية للتنانين وطائر العنقاء الأسطوريان عبارة عن زخارف خشبية متدلية، وهو ما رفع القيمة الجمالية لهذه البوابة لمستوى آخر لا يصدق.

تحتوي البوابة الجنوبية كذلك على مدخل بهية المنظر يتخذ شكلا مقوس يثير انتباه الأنظار إليه ويسحرهم بدقة نحته، وهو مزين بنقوش وخطوط تصور قصصا تراثية عن الأمان والصراع مع الأرواح الشريرة التي يعتقد أنها تحوم على المدينة القديمة.

  • البوابة الشمالية

تعرف هذه البوابة لدى الصينين باسم بوابة قونغ تشنغ، وتمتاز بخاصية التناظر الهندسي بين جانبيها، كما أنها شيدت مائلة قليلة لإعطائها طابعا من العزمة والفخامة، مما يبرز تطور الهندسة المعمارية لدى الصينيين منذ القدم.

تمتاز هذه البوابة بتناسق وجمال معماريين يسلبان اللب والفؤاد، وقد كانت عبارة عن مدخل يعبر منه المسؤولون الكبار للإمبراطورية والقادة العسكريون والجنود ذهابا وإيابا نحو المدينة القديمة، ولمكانة هذه البوابة فقد تم بناؤها بالحجر الصلب الثقيل الرمادي.

تعتلي البوابة الشمالية منصة خشبية أضافت عليها لمسة من الرقي، وهي ذات مدخل بديع المنظر صنع بإتقان ودقة وحرفية، وحفر بها نحت مذهل لأسدين حجريين، كما زخرفت بالنقوس والأشكال الهندسية التي تجسد وتصور تعاليم الفلسفة الكونفوشيوسية.

  • البوابة الشرقية

يطلق على هذه البوابة اسم بوابة تشنغ قوه، وهي تتسم بمكانة تجارية بالنسبة لسكان المدينة قديما، إذ كانت المعبر الرئيسي الذي تدخل وتخرج منه القوافل التجارية القادمة والذاهبة نحو عاصمة الإمبراطورية.

تتصل هذه البوابة مباشرة بمخزن كان يستخدم لتخزين الحبوب، مما يدعم ارتباطها بالجانب التجاري كونه دورها الرئيسي، وقد زينت جوانبها بأشكال هندسية منحوتة عليها ترمز للحصاد وآلهته ذات المكانة الكبرى في الثقافة والتراث الصينيين.
يعلو هذه البوابة برج مزخرف يحتوي على مجموعة من الطوابق الخشبية، أما سقفها فقد تم تنسيقه بشكل مميز تظهر طبقاته وكأنها عبارة عن جناحين مفتوحين لطائر غير مكتمل الصورة، وأضيفت على هذه الزينة بعض التماثيل لتنين ملتف على نفسه.

  • البوابة الغربية

تواجه هذه البوابة الغروب، وتُعرف ببوابة الريح والظلال، وكانت تستخدم لاستقبال القوافل التجارية الآتية من ممرات الجبال الغربية. تحمل في معمارها لمسة أكثر صرامة، فهي أقرب إلى الطابع العسكري، مما يدل على دورها الدفاعي المهم.

تعد بوابة المدينة القديمة الغربية الشهيرة باسم بوابة فنغ يي أكثر البوابة تشييدا على النسق العسكري المحض، فهي مبنية بواسطة الحجارة الصلبة، مما منحها خشونة ملمس، وهي تضم برج ذو زخرفة بسيطة غير مبهرجة، وتم تزيين سقفها الخشبي بأزهار اللوتس المحفورة عليه.

الشوارع

لا تقل شوارع المدينة القديمة أهمية وجمالا عن أسوارها وبواباتها، فهي شوارع عتيقة مرصوفة بالحصى والحجارة، وعند كل طرف منها تتراص المباني الخشبية والطينية والحجرية التي تشكل قمة الجمال المعماري في هذه التحفة الصينية العريقة.

تشكل الشوارع والأزقة المنبثقة عنها هيكلة منسجمة ودقيقة لنظام الطرقات المتمثل في شبكة من البنية التحية المتقدمة على عصرها الذي أنجزت فيها، فهي تتميز بكونها متقاطعة على شكل زوايا مستقيمة وحادة ومائلة، مما يخلق توازنا بصريا لا يخلو من أناقة التصميم.

في مدينة بينغياو القديمة، ليست الشوارع مجرد مسالك مرصوفة بالحجارة، بل هي شرايين تنبض بذكريات التجارة والعبادة، بأصوات الحرفيين، ووقع أقدام التجار، وهمسات العشاق الذين مرّوا من هنا ذات زمن. هنا، كل زقاق هو فصل في كتاب، وكل شارع هو ممرٌ بين الحاضر والماضي.

  • شارع شيتغقو

يتمتع شارع شيتغقو بمكانة راقية لكونه احتوى على مباني المؤسسات المصرفية بما فيها البنوك، مما منحها لقب شارع المال عن جدارة واستحقاق، وفيه يقع أقدم بنك في تاريخ الصين وهو مبنى بياوهاو ريشينغتشانغ.

يضم هذا الشارع أيضا مجموعة من المكاتب التي كان يعمل بها المحاسبون في الزن الغابر، وقد تحولت هذه الأخيرة في القرن العشرين إلى متاحف غنية بمحتويات قيمة مثل أختام الشمع الأحمر العتيقة، ودفاتر الحسابات العريقة، والأدوات الأثرية المستخدمة في التعاملات المالية آنذاك.

  • شارع مينغتشينغ

يعتبر شارع مينغتشينغ أشهر شوارع المدينة القديمة لما له من عراقة تاريخية وكونه المنطقة الأكثر حيوية بها، فهو يمتد طولا رابطا بين البوابة الشمالية وأختها الجنوبية متجسدا كسوق تجاري دائم الصخب على مدار قرون عدة منذ نشأة المدينة.

  • شارع دونغ داجي

يعتبر شارع دونغ داجي أحد أهم شوارع المدينة القديمة لكونه في سابق الأزمان كان يخصص لمرور المواكب الإمبراطورية، كما أنها كان المنطقة التي تنظم فيها الاحتفالات بالأعياد الدينية والمهرجانات الصينية القديمة.

الأزقة

تتنوع الأزقة الصغيرة المنبثقة عن الشوارع والمنتشرة في كل أرجاء المدينة القديمة في تشابك وتناسق مثالي أضفى على هذه الأخيرة رونقا معماريا فريدا من نوعه، وأغلب هذه الأزقة محاطة بجدران عالية تمثل واجهة المباني المتراصة على جانبيها، كما أنها تمتد حتى تنتهي عند ساحات داخلية فسيحة، أو تتوقف مطلة على حدائق ممتازة التشذيب.

إن جميع الأزقة تحمل اسما يرتبط بتاريخ المدينة العريقة، فبعضها سمي تقديرا لعائلة أو طائفة دينية ذات مكانة مرموقة في المجتمع، والبعض الآخر يدل على مهنة أو حرفة تقليدية، وقد تم تزيين الأزقة بالأقواس الطينية، وعلقت بها الأواني الفخارية، وتستخدم الفوانيس ذان الأنوار الخافتة للإضاءة، مما أكسبها جمالا بصريا ساحرا للعقول والأبصار.

  • زقاق نيوليان

يمتد زقاق نيوليان رابطا بين شارع مينغشينغ ومعبد المدينة القديم كأشهر زقاق في المدينة القديمة، وهو يتلوى في مواقع عدة مكتسبا انحناءات تجعله يضيق حينا ويتسع تارة أخرى، وتقوم على جانبيه المنازل الخشبية والحجرية العتيقة المغطاة بالقرميد، وهو أيضا مرصوف بالحجارة والحصى، مما يتيح للسائرين به الإحساس بالسفر عبر الزمن.

المنازل والمباني

التصميم

تعتبر المنازل التقليدية في المدينة القدية آية الجمال المعماري وأيقونة الحرفية الصينية فيما يتعلق بفنون البناء، وهي بيوت خشبية وحجرية متينة البنيان ذات فناء داخلي يمثل العلامة المميزة للتصميم الكلاسيكي لهذه المدينة العتيقة، ويطلق على هذا النوع من الأفنية اسم سيهيوان، وهو يضم نافورات صغيرة تحفها الأشجار المورقة.

الزخرفة

لا تخلو المباني والمنازل من زخرفة داخلية وخارجية سواء تعلق الأمر بالدور السكنية أو المكاتب وبنايات البنوك وحتى المتاجر، وتتجسد هذه الزينة في النقوش الدقيقة المعقدة والأشكال الهندسية والنباتية، وجميع تصور كائنات أسطورية مثل التنانين والعنقاء، أو تجسد توجهات دينية وفلسفية.

الألوان

تضفي الألوان المستخدمة لصباغة الجدران رونقا بهيا على المشهد البصري للمدينة القديمة ككل، وتتنوع بين الرمادي الداكن، والأسود القاني، والذهبي الملكي، والأحمر القرمزي، وتنسجم بشكل مثالي مع ألوان الأزهار المنتشرة هنا وهناك، وتتناسق مع الزخارف بصورة فائقة الروعة.

المكملات الجمالية

تعتبر الأعمدة الخشبية التي يتم نحتها عند مدخل المنازل والمباني والمتاجر، إلى جانب النوافذ والأسقف أحد أهم ركائز العمارة التقليدية في هذه المدينة، ويتم تزيينها بأشكال ونقوش معقدة مع مشربيات خشبية، إضافة إلى تماثيل ترمز للآلهة.

المعابد

تتوفر في المدينة القديمة العديد من المعابد العائدة للقرن الثالث عشر للميلاد، وأخرى شيدت في القرون اللاحقة لذلك، وقد بنيت هذه المعابد تخليدا واحتفاء بالديانة البوذية والفلسفة الكونفوشيوسية، وهي ذات جدران صلبة متينة مزينة من الداخل بلوحات ملونة رسمت بمهارة وإبداع.

موقع المدينة في بينغياو

تقع المدينة القديمة بينغياو في مدينة جينتشونغ شمال الصين، وهي تنتمي لمقاطعة شانشي، وقد تم تشييدها في منطقة طبيعية فائقة الجمال فوق شهل أخضر فائق الخصوبة، وتنتشر في محيطها العديد من التلال، وهي تبعد مسافة 6 كيلومترات عن معبد شوانغ لين، وتفصلها عن مزرعة عائلة شيانغ 40 كلم.

كيفية الوصول إلى المدينة القديمة في بينغياو

عندما تكون متواجدا في مدينة جينتشونغ وترغب في الوصول إلى المدينة القديمة في بينغياو، فعليك أن تعلم قبل كل شيء أن منطقة بينغياو تبعد عن مركز مدينة جينتشونغ حوالي 80 كلم، مما يتيح أمام الزوار وسائل نقل متنوعها لاستعمالها من أجل الذهاب إلى المدينة القديمة.

  • القطار

يمكن استخدام القطار كوسيلة نقل ممتازة، تتيح للركاب الاستمتاع بمشاهدة المناظر الطبيعية والمعالم السيحية على طول مسار الرحلة، والتي يتم قطعها بين محطة سكة حديد جينتشونغ ومحطة سكة حديد بينغياو، وهذه الأخيرة تبعد قرابة 10 دقائق فقط سيرا على الأقدام عن مدخل المدينة القديمة.

  • الحافلات

تعتبر الحافلات كذلك من أفضل وسائل النقل التي يمكن الصعود إليها في محطة حافلات Y UCI بجينتشونغ، والتوجه عبرها نحوها المدينة القديمة في بينغياو، ويجب على ركابها النزول منها عندما يصلون إلى محطة حافلات بينغياو، وتستغرق الرحلة مدة ساعة ونصف، وهي أيضا تتيح لمستخدميها مشاهدة الجمال المعماري والطبيعي طوال مسار الرحلة.

إننا ونحن نسدل الستار عن مقالنا حول المدينة القديمة في بينغياو لا يسعنا سوى أن نقول بأن هذه البقعة في الصين هي إحدى أجمال المواقع السياحية في البلاد، فهي تجمع بين الإرث الحضاري والمكانة الثقافية والجمال المعماري والطبيعي، مما يجعلها مكانا جذابا يستقطب إليه ملايين الزوار على مدار العام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *