
مسجد السلطان أيوب اسطنبول: تاريخ ضريح أبي أيوب الأنصاري | دليل الزيارة
تتعد الصروح المعمارية العظيمة والمواقع التاريخية السياحية في إسطنبول لدرجة يجد زوار هذه المدينة التركية العريقة صعوبة في تحديد الأماكن التي تستحق عناء الذهاب والتجول فيها، غير أن القدر نفسه أراد أن تتجمع جميع هذه المباني والمعالم في منطقة واحدة أطلق عليها منطقة الفاتح، ورغم ذلك توجد مساجد غاية في الروعة، وقلاع فائقة الجمال، وقصور تسحر الناظر لروعتها، وفي منطقة أيوب شيد العثمانيين مآثر لا تزال شامخة تأسر القلوب والألباب، وهناك في هذه المنطقة المميزة يقع مسجد السلطان أيوب التاريخي، وهو المعلم ذو القدسية الكبيرة لدى الأتراك الذي سنتحدث عنه في مقالنا هذا.
مسجد السلطان أيوب
يصنف مسجد السلطان كواحد من أشهر وأبرز المعالم التاريخية في إسطنبول، وهو أقدس مسجد وجامع متواجد في تركيا بالنسبة لمسلميها، وقد شيد هذا الصرح المعماري المهيب عام 1458م، كواحد من أهم المآثر التي بناها السلطان العثماني الشهير محمد الفاتح.
موقع مسجد السلطان أيوب
يقع مسجد أيوب سلطان كامي على مقربة من خليج القرن الذهبي في منطقة السلطان أيوب على الضفة الأوروبية بمدينة إسطنبول التركية، وتفصله عن تلة بيير لوتي مسافة 800 متر، فيما يبعد عنه ممشى الساحل مسافة كيلومتر واحد.
واجهة مسجد السلطان أيوب

إن أول ما يلفت انتباه الزائر لمسجد السلطان أيوب هو تصميمه المميز، إذ شيد على شكل مستطيل منحها مظهرا مهيبا، فقد تم بناؤه في الحقبة الزمنية التي تلت فتح القسطنطينية، وهو نموذج صارخ على روعة العمارة العثمانية.
تتجلى واجهته في جمال يبهر العقول قبل العيون، فهي تتكون من جدران صلبة ومتينة تم تغطيتها بحجر الكلس الذي يبدو وكأنه كساء لها أكثر مما هو جزء لا يتجزأ منها، وفي أعلى هذه الجدران وضعت نوافذ ذات شكل مقوس، والتي زخرفت بالأشكال الهندسية البديعة من الأعلى وعند الحواف.
القبة المركزية من الخارج
وعلى امتداد البصر خلف الجدران تظهر القبة المركزية بمظهرها المذهل والفاتن للعيون، وهي تتألق متجهة نحو الأفق العالي، كما أنها تتميز بالضخامة مما يضفي طابع العظمة على المسجد، ويكتمل جمالها بأربعة أنصاف قباب أحيطت بها بطريقة تنم عن براعة في التصميم، وهو ما يجعل المشهد البصري للقبة مع الواجهة متوازنا بشكل لا يصدق.
مئذنتا المسجد الشاهقتان
تظهر من الخارج كذلك مئذنتان تمتاز بالعلو الشاهق، وهما تمتدان برشاقة نحو السماء وكأنهما فارسان من العهد العثماني أنيطت لهما مهمة حماية هذا المعلم المقدس، وتم تشييدهما على الأسلوب العثماني الإسلامي في البناء، واعتمدت في تزيينها على النقوش والزخارف الإسلامية المبهرة.
تتربع في أعلى المئذنتان شرفات ذات مظهر جذاب يمكن رؤيتها حتى من مسافة بعيدة على المسجد، وقد صممت هذه الشرفات بدقة وبراعة عالية، وهي كذلك لم تخلو من الزينة الإسلامية الرائعة المتمثلة في الزخرفة والنقوش.
بوابة المسجد الرئيسية
يخطو الزوار نحو مسجد أيوب سلطان كامي ليقفوا أما بوابته الرئيسية التي تشغل مساحة كبيرة مما أكسبها ضخامة الشكل وجمال المنظر، وقد بنيت بالحجر المصقول، وتوجد في أعلاها قنطرة مقوسة عبارة عن قوس مزخرف بالكتابات الإسلامية والآيات القرآنية مع قباب صغيرة مثيرة للإعجاب.
الساحة الداخلية لمسجد السلطان أيوب
تنفتح البوابة الرئيسية لهذا المسجد على ساحة تحفها الأشجار من كل الجهات، وهي تحتوي على نوافير عدة تتدفق منها الميه لتسقي المناطق الخضراء المحيطة بها، مما يمنح الزوار شعورا بالهدوء والسكينة، وهو ما يحس به الجميع في الأماكن التي تجمع بين العمران والطبيعة.
التفاصيل المعمارية الجميلة
ينبهر زوار هذا المسجد بجماله المعماري فور تأملهم للجدران من الداخل، إذ تسحرهم التفاصيل الهندسية المتمثلة في الفسيفساء التي تغطي مساحات واسعة من الجدران، بالإضافة للنقوش المعقدة التي ترتكز عليها الزخرفة الآسرة للقلوب.
وعند الاقتراب من الجدران من الداخل تقع العيون على أشكال هندسية ونباتية رسمت بمهارة لا تصدق، إلى جانب كتابات دينية وآيات قرآنية خطت بخطوط عثمانية غاية في الروعة، وهي تمثل قمة الزخرفة في العمارة الإسلامية، وتتألق أكثر عندما تسلط عليها اشعة الشمس التي تنفذ للداخل من النوافذ لتبرز جمال التفاصيل الهندسية بهذه الصرح المعماري العظيم.
القاعة الرئيسية
يكمل الزوار سيرهم نحو القاعة الرئيسية لمسجد السلطان أيوب عبر ممر بسيط الهندسة، وهي تمتاز بالرحابة واتساع المساحة، كما أن سقفها ممتد على علو يتناسق اطرادا مع شكلها الهندسي، وقد علقت به فوانيس ضخمة متدلية بواسطة قضبان نحاسية، تعمل على إضاءة القاعة مما يخلق أجواء من الرهبة تنسجم مع طبيعة المكان المخصص للعبادة والصلاة.
يكتمل جمال القاعة بالسجاد الأحمر المفروش على أرضيتها، وقد اختير له هذا اللون ليضفي رونقا خاصا يلائم طبيعة المكان، مما يشعر الزوار بالسكينة والطمأنينة، ويحرك لديهم الإحساس بالروحانية، مما يرفع القيمة القدسية للمسجد بشكل كبير.
مجمع أيوب سلطان كامي
يكتسب مسجد السلطان أيوب مكانة كبيرة لدى المجتمع التركي باعتباره جامعا مقدس لاحتضانه قبر الصحابي أبو أيوب الأنصاري، وعندما شيده العثمانيين لم يبنوه كمسجد وفقط، بل أسسوا مجمعا كبيرا يضم المسجد والضريح ومكتبة هامة إلى جانب مدارس تاريخية كانت فيما سبق تستقبل الطلاب لدراسة العلوم المختلفة، كما تتوفر في المجمع ساحات خضراء وحدائق خلابة، بالإضافة إلى مرافق أخرى أبرزها حمام تركي عتيق.
ضريح أبو أيوب الأنصاري
يعد ضريح أبو أيوب الأنصاري أحد أقدس الأماكن في تركيا، ففيه دفن هذا الصحابي الجليل بعدما التحق بجيش المسلمين رغم كبر سنه في فتح القسطنطينية الأول، فاستشهد خلال الحرب، ويعتبر هذا الضريح جزء مهم من مسجد السلطان أيوب رغم أنه منفصل عن مبنى الجامع، إذ تم بناؤه داخل مبنى صغير على مقربة من المسجد لكنه ينتمي للمجمع ككل.
يمتاز ضريح أبو أيوب الانصاري بجماله المعماري المثير للإعجاب، فقد تم بناء جدران كل من الضريح والمبنى الذي يضمه بواسطة الحجر الجيري مع الرخام الأبيض، مما منحه مظهرا فخما يعكس مكانة الضريح وقدسيته لدى الأتراك.
اهتم العثمانيون بجعل الضريح مبهرا من الناحية الهندسية، فبنوا قبة دائرية ذات شكل أنيق وجذاب أضفت عليه لمسة جمالية رائعة، وقد تم تزيينها بالزخارف النباتية والهندسية التي تعد العلامة المميزة لفنون البناء في العهد العثماني، إلى جانب لوحة ذهبية طبع عليها اسم الصحابي أبو أيوب الانصاري بخط عثماني مذهل.
وضعت في أعلى جدران المبنى الذي يضم الضريح نوافذ زجاجية ملونة ينسل منها الضوء الطبيعي لكي يضاء الضريح داخليا بطريقة مميزة، وهو الأمر الذي أدى لخلق مشهد بصري يشعر الزوار بالرهبة ويعزز الإحساس الروحاني لديهم.
زخرفت الجدران من الداخل بالأشكال النباتية والآيات القرآنية المكتوبة بالخط الذهبي، وقد غطيت كذلك بألواح القيشاني ذات اللون الأخضر والأزرق، مما ساهم في تناغم الألوان بين الزينة وأشعة الشمس المنسابة للداخل مع التفاصيل الزخرفية، مما زاد المشهد البصري روعة وجمالا.
أما بالنسبة للضريح نفسه أو لنقل القبر الذي يرقد فيه الصحابي أبو أيوب الانصاري، فقد تم تغطيته بكساء أخضر طرز بخيوط ذهبية، ووضعت على جوانبه الأربعة شمعدانات نحاسية عتيقة يتجدد البخور الذي فيها بشكل دوري كي تظل رائحته منتشرة في المكان، وكل هذا من أجل إضفاء الطابع الروحاني على الضريح.
مكتبة مسجد السلطان أيوب

يتجاوز السلطان أيوب كونه مكانا للعبادة وفقط، بل هو مجمع يضم مكونات أخرى تزيد من أهميته التاريخية وترفع من مكانته الثقافية وقدسيته بشكل كبير جدا، وتعتبر مكتبته العريقة أبرز هذه الأقسام، نظرا لما تضمه من محتويات عالية القيمة، إضافة لهندسته المعمارية الآسرة للعيون.
تحتوي مكتبة مسجد أيوب سلطان كامي على العديد من المخطوطات القديمة التي لا تقدر بثمن، كما تضم مجموعة من الكتب النادرة أبرزها كتب الفقه والعلوم الشرعية، إلى جانب كتب أدبية وأخرى فلسفية، ويمكن للزوار عند تواجدهم فيها رية كتب كتبت بخطوط أنيقة منمقة بشكل ينم عن مهارة واتقان الخطاطين العثمانيين البارعين، وتعرض أغلبها في واجهات زجاجية في فخامة تمنح المكان هيبة خاصة.
بنيت المكتبة بواسطة الحجر الجيري الأبيض مما منحها مظهرا يحيل على الصفاء والنقاء، وهو ما يشعر الزوار فور دخولهم إليها بسكينة المقام العلمي، علاوة على أنها واقعة داخل المسجد، مما يزيد من روحانية المجمع ككل.
زينت جدران المكتبة من الداخل بالزخارف والنقوش والكتابات الإسلامية بين أشكال هندسية ونباتية مع آيات قرآنية وعبارات دينية، وتساهم الإضاءة الطبيعية التي تنسل للداخل عبر النوافذ الخشبية ذات الزجاج الرقيق في خلق تناغم بصري مذهل، إضافة لإبراز التفاصيل الهندسية بشكل مبهر للغاية.
تنقسم هذه المكتبة لعدة قاعات تتوزع بين الأماكن المخصصة لعرض الكتب والمخطوطات، وقاعات خصصت للقراءة، وجميع القاعات تحتوي على مكاتب ومقاعد خشبية وأثاث عثماني عتيق، أما الرفوف فهي خشبية لم تخلو من الزينة الزخرفية المنحوتة عليها بشكل بديع.
نجد أنفسنا في ختام مقالنا حول مسجد السلطان أيوب ملزمين بالقول أنه هذا المعلم هو أحد أبرز الصروح المعمارية الجميلة في تركيا، وهو إلى جانب آية صوفيا وقصر طوبا قابي وغيرهم من المعالم التاريخية تجعل من إسطنبول وجهة سياحية مثالية للراغبين في استكشاف التاريخ العثماني المشرق.