اسبانيا

القصبات الأندلسية في إسبانيا

حاولت الأمم والشعوب منذ فجر التاريخ حماية نفسها داخل المجتمعات التي شكلتها، ولطالما كان الهاجس الدفاعي للقبائل التي سكنت الجبال الشاهقة والهضاب والسهول الممتدة أهم معضلة تضمن لهم الاستمرار والبقاء، ولقد تفننت البشرية في تأمين نفسها ودورها فنحتت مدن غاية في الروعة والتصميم على الجبال، وبنت كهوف ومدنا تحت الأرض كانت ملاجئ تأويهم في زمن الحروب المدمرة، وشيدت القلاع العتيدة التي صمدت قرون طويلة أمام ضربات المجانق الصاعقة، وفي هذا السياق سنتطرق في مقالنا هذا لأحدى الأفكار المبتكرة للقبائل في المغرب والأندلس لضمان أمنها وحماية مكوناتها أمام غزو الأعداء، والحديث هنا عن القصبات ونخص بالتحديد القصبات الأندلسية باسبانيا.


ما هي القصبات؟

إن القصبات هي مجموعة من الدور المترابطة مع بعضها البعض داخل سوار تشكله المباني الخارجية المحيطة بشكل دائري حول جميع المباني والدور المشكلة للقصبة، ويتم بناؤها بأسلوب تقليدي مذهل التصميم ينسب للأمازيغ بالمغرب السبق التاريخ في تشييدها لأول مرة.

إن القصبات هي عبارة عن دور عالية مخصصة لاستقرار القبائل بها والسكن فيها، غير أن المثير فيها هي أنها تتجسد كحصون دفاعية في حد ذاتها، إذ يمنحها مظهرها العام كمن الخارجي صفة القلعة الضخمة الفسيحة المساحة المكونة من عدد لا بأس به من المنازل والبيوت والمخازن.

تبنى القصبات بواسطة الطين والحجر بحيث أن الطين يشكل المكون الرئيسي لها، ويتم تشييدها على الأراضي المرتفعة، مما يمنحها موقعا استراتيجيا للمراقبة من جهة، والهجوم من الأعلى وصعوبة الاختراق من الأسفل من ناحية أخرى.

عندما ظهرت القصبات في البداية كانت مسكنا خاصا بزعماء القبائل أو رؤوس العائلات القوية في القبيلة مع عائلتهم، وكانت مساحتها في الأصل متقلصة عندما كانت مخصصة لهؤلاء، وبعدما أثبت القصبات أنها معاقل دفاعية فعالة، أصبحت تبنى بمساحات كبرى لتكون مكان عيش القبيلة.

القصبات الأندلسية

على خلاف القصبات المغربية التي أبدع الأمازيغ في بنائها سواء شكلا أو وظيفة وصارت مسكنا للقبائل، فإن القصبات الأندلسية شيدت من أجل الوظيفة الدفاعية المحضة، وهي عبارة عن ثكنات عسكرية شبيها هندسيا لأختها في المغرب.
أراد القادة العسكريون ومعهم حكام الأندلس بناء حصون دفاعية عند الثغور التي تقع على الحدود مع الممالك المسيحية، فاستلهموا فكرة القصبات من المغرب وشيدوها باعتبارها معاقل دفاعية للحاميات العسكرية، فشيدت العديد منها عند الحدود، وبعدما أظهرت فعالية شديدة تم بناء قصبات أخرى في المدن الكبرى مثل مالقا وغرناطة وحتى قرطبة.

أشهر القصبات الأندلسية

قصبة الحنش

شيدت قصبة الحنش كقلعة مهيبة حملت نفس الاسم، وضمت بعد انتهاء بنائها برج الحنش السابق لوجودها، لتصبح بذلك حصنا دفاعيا متكاملا الأوصاف، وهي إحدى التحف المعمارية الأندلسية التي امتزجت فيها روعة الهندسة مع جمال المناظر الطبيعية المحيطة بها، ناهيك عن قوة ومتانة التحصين وهو الغاية الأساسية التي بنيت من أجله.
عندما تقف أمام هذه القلعة فلابد لك وأن تدرك أنها تتجاوز كونها مجرد مجموعة من الحجارة شكلت مبنى عتيق، بل هي تجعلك تستشعر زمن المجد وذكريات ذروة القوة التي شهدت بلاد الأندلس، فبعد كل شيء هذه القلعة هي واحدة من مآثر عصر ازدهار إمارة قرطبة.

تقع هذه القلعة الرائعة في قرطبة، وقم بنيت تنفيذا لأوامر الخليفة الناصر لدين الله عبد الرحمان الثالث، وهو أعظم حكام الأندلس قاطبة إلى جانب مؤسس الدولة صقر قريش، وقد عرفت كذلك باسم قلعة بوخلانكي.

تمتاز بخصائص العمارة الإسلامية الأندلسية بما فيها الأبراج والأسوار الشاهقة الارتفاع، وكانت تستخدم كثنة عسكرية، وشكلت الموقع الدفاعي الأول عن قرطبة، وهي تضم مخازن للمؤونة والسلاح، كما تتوفر بها ساحات فسيحة منحت سمة جمالية إصافة لطابعها العسكري.

قامت الملكة كوانا الأولى عام 1512 بإعادة ترميم قلعة الحنش بعدما لحقها الضرر البالغ خلال صراعات مرحلة ملوك الطوائف، وتعرضت لدمار مهول إبان حروب الاسترداد، فأضيفت إليها تحسينات عدة استلهمت من الطراز المعماري الإسباني في تلقى الفترة من التاريخ، مما جعلها تصبح صرحا معماريا فائق الروعة تتجلى فيها خصائص الطرازين الإسلامي والاسباني في فن البناء.

بفضل موقعها الاستراتيجي تتيح قصبة الحنش لللزوار فرصة الاستمتاع بإطلالة بانوراميا على الوادي الكبير الذي يخترق السهول والحقول والبساتين على مقربة منها، كما أن هذه القلعة محاطة بمجموعة من الأزقة التاريخية الضيقة، والتي رصفت أرضياتها بالحجارة، مما يضفي جمالا ساحرا على منطقة تواجدها.

قصبة مالقا

تعد قصبة مالقا إحدى أبرز القصبات الأندلسية البديعة التصميم والهندسة، ولقد بنيت على أنقاض بقايا مبان رومانية وجدت في منطقة تشييد هذه القصبة منذ القرن الأول قبل الميلاد، فقام المسلمون بنائها بحيث تضم قصرا وحصنا دفاعيا في ذات الوقت.

بنيت قصبة مالقا بتفاصيل غاية في الروعة والدقة والاتقان معماريا في مرحلة حكم بنو حمود لمالقا خلال مرحلة ملوك الطوائف بالأندلس في الفترة الزمنية الممتدة من 1016م و1060م، ويعتقد أن هذه القبصة شيدت في عهد يحيى الأول بن علي بن حمود.

تصميم القصبة

بنيت قصبة مالقا في موقع استراتيجي في المدينة بحيث تطل على ساحلها ومينائها البحري، وقد صممت بشكل مذهلة الطراز المغربي مع لمسة أندلسية مميزة، فهي مبنية على تلة عالية مكونة من سورين يزيدانها قوة دفاعية، كما أن القصبة تتصل بالسور الذي يحيط بمدينة مالقا فصار للقصبة ثلاثة أسوار، وهذه خاصية مميزة لم يسبق ان امتلكها قصبة أخرى.

نظرا للأحداث الكبرى والحروب المدمرة التي شهدتها مالقا إبان مرحلة ملوك الطوائف وفترة حرب الاسترداد، فقد زال السور الثالث وبقي سوران يحيطان بقصبتها، إذ يمتد السور الأول على الحواف الجغرافية للتل الذي بنيت به، ويقف شامخا كحارس على حدود المدينة، فيما يتجسد السور الثاني كدرع وقائي لمكوناتها الداخلية، تزيده قوة أبراجه الدفاعية الشاهقة.

مكونات قصبة مالقا

  • الحصن الخارجي

يعد الحصن الخارجي مكونا رئيسيا في قصبة مالقا، ويتكون من مدخل عبارة عن سور دفاعي يضم بوابة ضخمة تبدو وكأنها تتضاعف حجما واتساعا عند الاقتراب منها، مما يوحي بصلابتها وصعوبة بلوغها، وكان الهدف من تصميمها على هذه الشاكلة بث الذعر في نفوس المهاجمين.

  • الحصن الداخلي

إن الحصن الداخلي هو أهم وأبرز مكون في قصبة مالقا، وهو يضم القصر الذي بني فيها مع الدور السكنية، وقد تفنن الأندلسيون في جعل مكونات الحصن الداخلي غاية في الروعة المعمارية، فزخرفوا القصر بالنقوش والكتابات الإسلامية، كما أن المساكن احتوت على تفاصيل هندسية مذهلة، ويتم الولوج إلى هذا الحصن عبر بوابة متينة مهيبة.

قصبة الحمراء

بنيت قصبة الحمراء لتكون الحصن الدفاعي الأول والمنيع للحيلولة دون وقوع أي ضرر بقصر الحمراء الشهير بغرناطة، فهي قسم مهم تابع له، بل إن البعض يعتبرها أحد أهم أجزائه المنفصلة عنه، وهي تنصب في شموخ بمثابة درع واق لهذا القصر العظيم.

تم تشييد قصبة الحمراء تنفيذا لأوامر محمد الأول بن الأحمر، وهو أحد أبرز ملوك إمارة بنو الأحمر في غرناطة، وقد كان الهدف من بنائها جعلها حائط الصد وخط الدفاع الأول أمام الغزاة الذين سيكلون خطرا كبيرا على المدينة.

تم بناء هذه القصبة الأندلسية على أنقاض قلعة تاريخية عريقة، مما جعلها أشد متانة وصلابة وذات هيبة، وهي تحتوي على سور عال بني بجدران قوية من الحجارة، وتضم أبراج للمراقبة والدفاع، وتتميز أبراج بكونها منصة يمكن من خلالها مشاهدة غرناطة ممن خلال إطلالة فائقة الروعة، كما تتوفر بها عدة مخازن للمؤونة والسلاح.

تقع قصبة وقصر الحمراء عند سفح جبال سييرا نيفادا الشهيرة في اسبانيا، وهو ما يجعلها محاطة بمناظر طبيعية خلابة وساحرة للغاية، ففي الشتاء تكسو الثلوج هذه الجبال فتغطي القصبة أيضا، فتصبح وكأنها إحدى قلاع الحكايات الخيالية.

قصبة المرية

بنيت قصبة المرية في عهد الناصر لدين الله عبد الرحمان الثالث الأموي خليفة قرطبة، وقد تم تشييدها على شاكلة القصبات المغربية لتكون قلعة وحصنا دفاعيا بجدرانها الصلبة المتينة وأبراجها الشاهقة، وهي تضم دورا سكنية ومخازن للمؤونة ومسجدا صغيرا، علاوة على أنها عمال ألميريا اتخذوها مقرا لهم.

  • السياج الأول

تتكون قصبة المرية من سياج عريض يمثل ما يشبه السوار أو الخط الدفاعي الأول، وهو بمثابة ملاذ يلجأ إليه سكان المدينة عند وقوعها تحت الحصار، وهو مزود بخزانات ومخازن كبيرة، كما أنها جدرانه متينة البنيان صلبة تم بناؤها بالحجارة القوية مع الطوب الطيني.

  • الجدار الفاصل

يتوفر بالقصبة جدار يطلق عليه جدار الشراع يحتوي على جرس يتم قرعه من أجل ابلاغ سكان المرية وتحذيرهم من أي خطر داهم المدينة، ومن هذا الجرس أخذ الجرس اسمه، وهو يمتد بين السياج الأول والثاني كفاصل بينهما، ولم يكن من مكونات القصبة في الأصل، لكنه أضيف إليها في مرحلة حكم كارلوس الثالث ملك اسبانيا.

  • السياج الثاني

يعد السياج الثاني الخط الدفاعي الثاني وأحد أهم مكونات قصبة المرية، وفيه تقع أقسامها المعيشية والخاصة بالعبادة مثل الدور السكنية والحمامات والمسجد والصهاريج وبعض الخيام، وهذا السياج هو المقر الذي كان يستقر به حكام المرية.

  • السياج الثالث

أضيف لقصبة المرية سياج ثالث بعد سقوط المدينة في يد فيرناندو وايزابيلا خلال حروب الاسترداد، وقد شيد بمهارة ودقة عالية بحيث يكون مضادا ومقاومة لضربات مدفع الباردو الذي أصبح أهم سلاح عسكري في تلك المرحلة من التاريخ.

قصبة انتقيرة

إن قصبة انتقيرة هي حصن دفاعي تم بناؤها خلال مرحلة حروب الاسترداد للحيلولة دون تقدم الجيوش الكاثوليكية وتوغلها في هذه المنطقة من بلاد الأندلس إبان القرن الرابع عشر الميلادي، وهي لا تزال تنتصب في شموخ رغم كل مر عليها من أحداث وحروب وصراعات كنموذج صارخ على عظمة المعمار الأندلسي.

يبرز تصميمها على شكل مستطيل مهارة مسلمي الأندلس في فن البناء، كما يظهر بشكل جلي مدى التفكير العبقري فيما يتعلق بالتخطيط العسكري خصوصا في شقه الدفاعي، ويتوفر بها سور شاهق الارتفاع والطول، كما تحتوي على برجين يصنف أحدهما ضمن أطول الأبراج التي شيدها المسلمون في الأندلس.

رغم أن الأبراج صممت فغي الأصل من أجل المراقبة وأداء المهام الدفاعية كالتصدي وضرب الأعداء من الأعلى، إلا أنها في حد ذاتها عبارة عن منصة يمكن الوقوف بها والاستمتاع بإطلالة مذهلة على مدينة انتقيرة من جهة، ومشاهدة مختلف المناظر الطبيعية الخلابة من الأعلى من ناحية أخرى.

تحيط بقصبة انتقيرة تضاريس طبيعية متنوعة تزيد من جمالية المنظر الطبيعي المنسجم تماما مع روعة العمارة الإسلامية، إذ توجد العديد من السهول الخضراء الممتدة على مرمى البصر، كما يمكن رؤية التلال المتوجة التي يخطف منظرها العقول والعيون على حد سواء، إضافة إلى أن القصبة غير بعيدة عن سلسلة جبال إلبتوركال ذات التشكيلات الصخرية الفريدة من نوعها.

قصبة بطليوس

يعود تاريخ وجود قصبة بطليوس إلى القرن التاسع، وقد بنيت في الأصل كقصبة بسيطة بجدران مرتفعة ومتينة باعتبارها ثكنة عسكرية، وقد قام الموحدون بعد دخولهم الأندلس بإعادة بنائها في القرن الثاني عشر للميلاد، ومنذ تشييدها وحتى سقوط المدينة في يد ألفونسو الرابع ملك قشتالة مقرا لحكام بطليوس.

تمتاز قصبة بطليوس بضخامتها بموقعها الاستراتيجي إذ تتواجد على الطريق الحدود بين البرتغال واسبانيا، وهي تطل على نهر وادي يانة على رابية تطل على هذا الوادي، وهي حصن دفاعي متين اشتهرت بدورها هذا خلال مرحلة ملوك الطوائف، وأثبتها جدارتها وفاعلية أثناء حروب الردة، وتم إعلانها إرثا قوميا للدولة الاسبانية عام 1931م.

تتميز قصبة بطليوس بأسوارها وأبراجها العالية العائدة للقرن الثاني عشر الميلادي، وهي تضم مسجدا كبيرا مع مساجد صغرى، إلى جانب عدة منازل ومخازن وقاعات ومستشفى عسكري، كما يوجد عند مدخلها تمثال مؤسس مدينة بطليوس عبد الرحمان بن مروان الجليقي، وقد كانت قاعدة عسكرية أندلسية مهمة للغاية.

إن القصبات الأندلسية رغم كونها أساسا حصون وقلاع دفاعية بنيت لأداء مهام وأدوار عسكرية محضة، إلا أن مسلمي الأندلس أبدعوا وتفننوا فيها فشيدوا لنا تحفا معمارية لا تزال واقفة في شموخ تذكر كل من زار بعظمة دولة الأندلس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *