كهوف موغاو في الصين رحلة إلى أعماق التاريخ والفن البوذي الخالد
إن التاريخ الفريد الذي مر على الصين خلف وراءه إرثا حضاريا بالغ الأهمية، إذ أن البلاد عرفت منذ قرون طويلة تفوقا وتطورا كبيرا في مجال البناء والهندسة والمعمار، وهو ما يظهر جليا في المعالم التاريخية التي تتوفر بها، ومن بين هذه المآثر التي خلفتها أنامل البراعة البشرية في الصين تلك الكهوف المنحوتة على المنحدرات والشهيرة بكهوف موغاو، وهي شاهد حي على شدة تفاني الإنسان الصيني في الأعمال الفنية المرتبطة بالديانة البوذية. في هذا المقال سنأخذكم في رحلة استكشافية لكهوف موغاو الشهيرة بالصين.
نظرة عامة حول كهوف موغاو
![صورة تظهر تفاصيل دقيقة من الرسومات الجدارية الملونة داخل كهوف موغاو البوذية.](https://azmodon.com/wp-content/uploads/2025/01/كهوف-موغاو-1024x579.jpg)
إن كهوف موغاو هي واحدة من أروع المعالم التاريخية التي أبدع الصينية في تشييدها بلمسة فنية فائقة الدقة والجمال، وهي كهوف منحوتة على المنحدرات المتواجدة فوق نهر داتشوان، وقد اشتهرت بلقب كهوف الألف بوذا، وهي تقع في مقاطعة قانسو بالطرف الغربي من ممر هيكسي، على مقربة من مدينة دونغ هوانغ فيما يعرف تاريخيا واصطلاحا بطريق الحرير.
تصنف كهوف موغاو باعتبارها شبكة مذهلة من الكهوف التي تم بناؤها وتطويرها على مدى أزيد من ألف عام، وهي شهادة حية على مدى براعة الفن الصيني البوذي، إذ يوجد بها 735 كهف، كل واحد فيها تم الاهتمام بهندسته بشكل مثير للإعجاب، وقد تم إدراجها ضمن مواقع التراث العالمي لليونيسكو عام 1987.
تضم كهوف موغاو 45 متر مربع من اللوحات الجدارية التي تحتوي على كتابة ورسومات بوذية دينية وتاريخية مثيرة للاهتمام، بالإضافة لكونها تحتوي على 2400 تمثال أغلبها لبوذا، وقد تم الاعتناء بأدق التفاصيل أثناء تشيدها، مما جعلها تماثيل تستحق الزيارة والاستكشاف.
أفضل وقت لزيارة كهوف موغاو
تعتبر الفترة الممتدة من ماري إلى كماي هي الوقت المثالي لزيارة كهوف موغاو، إذ يكون الطقس معتدلا ومناسبا للتجول، كما أن الفترة من شتنبر إلى نوفمبر هي أيضا فترة ملائمة للقيام بجولة سياحية داخل هذه الكهوف.
كيفية الوصول إلى كهوف موغاو
إن مدينة دونغ هوانغ هي الأقرب إلى كهوف موغاو، إذ تفصل بينهما مسافة 25 كلم، ويمكن التنقل بينهما بواسطة السيارة في حوالي 30 دقيقة، أو باستخدام الحافلة والتي تستغرق 40 دقيقة.
أما بالنسبة لباقي المدن مثل بكين وشنغهاي، فمن الضروري التنقل إلى مدينة دونغ هوانغ أولا عبر الطائرة أو القطار السريع أو الحافلة أو السيارة، وبعد ذلك إكمال الرحلة نحو كهوف موغاو.
لمحة تاريخية حول كهوف موغاو
يعود تاريخ نحت كهوف موغاو لأول إلى عام 366م، إذ قام لو زون وهو راهب بوذي ببناء أول كهف منحوت من هذه الشبكة من أجل إقامة مكان خاص لممارسة الشعائر الروحانية بما فيها العبادة البوذية والتأمل، ومنذ ذلك الحين وطوال مرحلة حكم سلالة يوان وقبلهم خلال عصر المماليك الستة عشر، وعلى مدار 1000 عام كامل استمر بناء ونحت هذه الكهوف حتى تشكل مجمع كهوف موغاو الفريد من نوعه، وقد سهر الأباطرة الصينيون، والرهبان والحجاج على الاهتمام بنحت وبناء سلسلة الكهوف هذه، وتزويدها بالمخطوطات واللوحات الجدارية والرسومات في أداء فني قل نظيره في مكان آخر من العالم.
مثلت كهوف موغاو على مر العصور إرثا ورمزا ثقافيا ودينيا وتاريخا صينيا ساهم في نشر الثقافة والدين البوذيين بشكل كبير، لا سيما خلال فترة امتداد الإمبراطورية الرومانية شرقا، وربطها للعلاقات من امبراطورية الصين، في ظل العلاقات التجارية التي كانت تتم عبر طريق الحرير، خلال مرحلة حكم سلالة تانغ، مما أكسبها أهمية ثقافية وتاريخية كبرى جعلت منها الشاهد الحي على التلاقح الثقافي والفني بين الشرق والغرب، كما أنه تظل دليلا على مدى التفاني الذي كان يبذله الصينيون في الأعمال الفنية المرتبطة بالدين أو الإمبراطورية.
إعادة الاستكشاف في العصر الحديث
اكتشفت كهوف موغاو في العصر الحديث عام 1900 من طرف وانج بوالنو وهو راهب ينتمي للطائفة الطاوية، والذي عثر خلال بحثه في منطقة المنحدرات على نهر داتشوان على غرفة مغلقة في كهف، وقد وجدت داخلها بعد فتحها والبحث في محتوياتها على مجموعة من المخطوطات المهمة في تاريخ الصين، والتي تعتبر كنزا وطنيا بالنسبة للبلاد وهي مخطوطات دونغ هوانغ، فأدى هذا الاكتشاف إلى تحفيز غريزة البحث لدى المؤرخين والمستكشفين والمهتمين بالآثار والتاريخ، فأعقبته مجموعات من التنقيبات في منطقة شبكة كهوف موغاو، والتي أسفرت عن الوصول لمعلمة تاريخية عريقة وغابرة تخفي بين ثناياها تاريخا عظيما من الفن والثقافة والالتزام الديني.
لم تكن جميع عمليات البحث والتنقيب في كهوف موغاو بريئة والهدف منها هو الوصول للكنوز التاريخية الثقافية وإعادة فتحها أمام العالم، بل كان هنالك من لديه نوياي مختلفة، ومن بين هؤلاء عالم الآثار المجري البريطاني أوريل شتاين، والذي قام بالتنقيب في الكهوف وعثر على مجموعة من المخطوطات والأعمال الفنية الرائعة وذات الأهمية الكبرى بالنسبة لتراث الصين، وبدل أن يحفظها في مكانها ويحيطها بعناية تامة كي تظل موجودة أمام الباحثين والزوار مستقبلا، فقد قام بأخذها معه إلى بريطانيا.
الهندسة ومكونات البناء في كهوف موغاو
نحتت وبنيت كهوف موغاو على جرف تشكله المنحدرات الواقعة فوق نهر داتشوان، مما يدل على المجهوذ المبذول أثناء البناء من قبل البنائين وفناني الهندسة الصينيين القدامى، وقد جمع الأسلوب الهندسي الذي اعتمد لتشييد هذه الكهوف على الفن الكلاسيكي المعماري الصيني في تشييد المباني، وتقنيات أعمال البناء البوذية، وقد استعملت في بناء ونحت هذه الكهوف مواد الطين والقش والخشب لتشييد التماثيل، فيما تم استخدام الأصباغ الطبيعية للرسم اللوحات، كما طليت الأسقف بالزخارف والأشكال والتصميمات الصينية التقليدية المعقدة، حيث تتواجد زهرة اللوتس بكثرة في أسقف مختلف الكهوف، وهي رمز بوذي يحتل مكانة كبيرة في هذه الديانة.
المكونات الرئيسية في كهوف موغاو
![منظر داخلي لكهوف موغاو يبرز الرسوم الجدارية البوذية الملونة والتفاصيل الفنية المعقدة.](https://azmodon.com/wp-content/uploads/2025/01/كهوف-موغاو-بالصين-1024x579.jpg)
- الجداريات
إن الجداريات واللوحات الجدارية على الجدران في كهوف موغاو هي أعمال فنية متقنة التنفيذ والإنجاز، وهي بمثابة السجل البصري الممتد في كل ركن من هذه الكهوف، إذ تم من خلالها تصوير حياة بوذا، وطباعة أساطير بوذية أخرى، كما تم تصوير أحداث تاريخية وتجارية مرت على المنطقة والصين ككل.
تتضمن هذه الجداريات تخليدا لمشاهد عدة من الحياة الروحانية المتصلة بالتأمل، ومشاهد للثقافة الصينية القديمة متجلية في العادات الاجتماعية التي تم رسمها على الجدران بشكل فائق الروعة وهذا أقل ما يقال، إضافة للتعاليم البوذية التي تم استحضارها في مشاهد منحوتة على الأسقف والممرات، دون نسيان النصوص المقدسة التي كتبت ونقشت في جميع أرجاء الكهوف.
- المنحوتات الطينية
تحتل المنحوتات الطينية مكانة مهمة كواحد من أهم المكونات في كهوف موغاو، وهي أعمل تم نحتها إما من الصخور الموجودة داخل الكهوف، أو بواسطة الطين الذي يتم تكيله على شكل طبقات في إطارات خشبية.
تعتبر تماثيل بوذا أهم هذه المنحوتات الطينية، إذ تم نحتها بدقة ومهارة عاليتين، كما تم الاهتمام بجميع التفاصيل الدقيقة أثناء عملية الإنجاز بما فيها ملامح الوجه، وأدق تفاصيل الأقدام والأيدي، وقد تم تزيينها بالأصباغ الطبيعية وأعمال الجص.
كهوف موغاو الشهيرة
- كهف المكتبة (الكهف رقم 17)
إن كهف المكتبة هو أشهر كهف في شبكة كهوف موغاو، وقد تمت إعادة استكشافه في أوئل القرن العشرين، وهو عبارة غرفة صغيرة تم تزيين جدرانها بالزخارف والرسومات التي تصور الحياة الدينية والروحانية، بالإضافة لمشاهد لمناظر طبيعية خلابة ومتنوعة، كما أنها تحتوي على أرفف حجرية كان تستخدم لتخزين المخطوطات والتحف البوذية القديمة، وجدير بالذكر أن المخطوطات التي وجدت فيه كانت مكتوبة باللغات الصينية والسنسكريتية والطاجيكية.
- كهف المعابد الرئيسية (الكهف رقم 1)
تم تصميم هذا الكهف باستخدام فن البوديزم، وهو أحد أقدم فنون الهندسة في الصين، مما جعله بسيط معماريا على عكس بقية الكهوف، وهو واحد من الكهوف القديمة التي بنيت في بداية تشكل كهوف موغاو، وقد تمت تغطية جدرانه باللوحات الجدارية التي تصور الآلهة وبوذا خلال مرحلة ذروة هذه الديانة في الصين.
- كهف تمثال بوذا الراقد (الكهف 96)
يعتبر واحد من الكهوف الكبيرة في شبكة موغاو، وهو يضم تمثال بوذا الراقد الضخم، إذ يصل طوله إلى 15 مترا، كما أن جميع جدرانه مغطاة باللوحات الجدارية التي تمثل التعاليم البوذية، وهو يتميز بوجود مجموعة من الأعمدة داخله.
مباني ياغودا الشهيرة في كهوف موغاو
- مبنى ياغودا من ثلاث طوابق
يقع هذا المبنى في مدخل أكبر كهف في شبكة موغاو، وقد تم تشييده خلال مرحلة حكم سلالة تانغ، كما أن مزين بالنقوش والكتابات البوذية واللوحات الجدارية، وهو مصمم على هذا النحو من أجل العبادة والتأمل، بحيث أن كل طبقة مخصصة لدور منوط بها، بحيث أن الطبق الأول هو مدخل رئيسي له، والطابق الثاني للتأمل والعبادة، والطابق الثالث لحفظ الآثار والمخطوطات.
- مبنى باغودا من تسع طوابق
يقع هذا المبنى عند مدخل الكهف رقم 96، ويتواجد أضخم وأطول تمال لبوذا من الطين في الصين ككل، وهو تمثال يصل طوله إلى 35 مترا، ويطلق عليه تمثال بوذا العظيم، وقد تم تزيين هذا الياغودا باللوحات الجدارية والكتابات والنقوش البوذية، كما أن يحتوي على تماثيل صغيرة لبوذا في عدة طابق منه.
إن كهوف موغاو هي شاهدة حية على التاريخ الغني للفن والعمارة في الصين، وهي دليل على العمل الفني والمعماري المتفاني الذي كان يقدمه الفنانون والبناؤون الصينين خلال العصور القديمة، وقد ظلت هذه الكهوف صامدة وشامخة لتذكر العالم مرة أخرى بأن البشرية دائمة الإبداع حتى في عصور ما قبل الصناعة.