
متحف ديل برادو: دليلك الكامل لأشهر روائع الفن في إسبانيا
لطالما كان الإبداع الفني هو ذلك الشيء الذي يأسر القلوب ويحرك الأحاسيس لدى البشر مهما اختلفت ظروفهم، وكيفما كانت حالاتهم النفسية والمزاجية، ولقد برع الرسامون والنحاتون في هز المشاعر وإدخال السرور إلى النفوس المنغلقة، فمن من لم تؤثر فيه الموناليزا؟ وأينا لم ينبهر برسومات بيكاسو ودالي؟ وهل هناك من لم تسحره لوحات فان غوخ؟ ولكون هذه الأعمال ذات مكانة وقيمة عاليتين لدى الأفراد إن لم نقل عند المجتمعات، فقد بنيت المتاحف لتكون الحصن الأمين الذي يعرض هذه التحف الفنية الخالدة، ولتظل الملاذ الذي يلجأ إليه الناس بحثا عن لحظات شاعرية من التأمل في الإبداع والابتكار، فلا يختلف اثنان على أن تجربة زيارة المتحف هي واحدة من أجمل التجارب الحسية التي ترفع الذوق وتبعث الإحساس بالسعادة لدى غالبية الأشخاص، وفي هذا السياق نأخذكم في رحلة ممتعة للتعرف على متحف ديل برادو في اسبانيا.
متحف ديل برادو

يقف متحف ديل برادو وسط العاصمة الاسبانية مدريد كأنه فارس من فرسان الهيكل يظل يقظ متوجسا يحرس ذاكرة الزمن الجميل، فهو مكان هادئ تعرض فيه الحياة التي مرت على اسبانيا ومعها اوروبا طوال قرون ممتدة عبر لوحات فنية تعرض كلاسيكيات الفن الأوروبي.
يصنف هذا المتحف ضمن قائمة أرقى المؤسسات الفنية على مستوى أوروبا والعالم، وهو بمثابة معرض مفتوح لتاريخ اسبانيا الفني المجيد، وتحتوي قاعاته وغرفه على مجموعة من اللوحات والمنحوتات التي يمكن وصفها بأعظم الأعمال الفنية الاسبانية، خاصة وأنها لوحات رسمت في حقب زمنية متفاوتة تمتد من القرن الثاني عشر وحتى القرن التاسع عشر للميلاد.
افتتح متحف ديل برادو رسميا أمام العموم كواحد من أبرز المراكز الثقافية والفنية في أوروبا عام 1819م، وقد سمي بهذا الاسم لكونه شيد على بقعة من الأرض عرفت باسم مرج سان جيرونيمو، فكلمة برادو باللفظ الاسباني معناها مرج.
تطور هذا المتحف المهيب ذو العظمة الفنية الكبرى من كونه صالة عرض صغيرة وحسب، إلى أن يصبح خلال القرن العشرين متحفا فخما ذو مكانة ثقافية عالية على المستوى العالمي، فعلى مدار قرن ونيف استطاع المتحف أن يجمع ألاف اللوحات الفنية الذائعة الصيت، كما أنه يضم منحوتات لعباقرة فن النحت الاسبان، وهو ما جعلها يصبح أهم مركز وصرح ثقافي في مدريد واسبانيا.
يصل عدد اللوحات التي يتوفر عليها متحف ديل برادو إلى أكثر من 8000 لوحة فنية لعباقرة الرسم والنحت الاسبان، غير أنه لا يتم عرض جميع اللوحات أمام الضيوف، إذ تعتمد سياسة العرض على تقديم 1500 قطعة فنية للجمهور من أجل مشاهدتها في نفس الوقت، وهو ما يتيح لضيوفه الاستمتاع بمشاهدة المعروضات من خلال تجربة تتجدد بشكل يومي تقريبا.
يستقطب متحف مدريد الراقي ما يفوق 3 ملايين زائر على مدار العام، وتعد النخبة الفنية وعشاق الرسم والنحت الفئة الأبرز التي تفد عليها بحثا عن المتعة، ورغبة في مشاهدة الجمال والإبداع، وطلبا للإلهام، فبعد كل شيء تعرض في المتحف أعمال لعباقرة مثل فرانسيسكو دي غويا، ودييغو فيلاسكيز، وروبنز.
جمال متحف ديل برادو

يصل الزوار إلى متحف ديل برادو فيقفون مسحورين بجمال واجهته، والتي تجعله يظهر وكأنه قصر من عصر النهضة الأوروبية، وقد أشرف على تصميمها المعماري الاسباني خوان دي فيلانويفا، إذ أخرجها بهية تجمع بين بساطة البناء وفخامة المنظر ذات الطابع الملكي، مما أدى نتج عنه أن يتصف المتحف ككل بالوقار والهيبة.
تتكون الواجهة من جدران متينة وصلبة بنيت بواسطة الحجر الرملي، وهو يتدرجمن الأسفل نحو الأعلى، وقد تم المزاوجة بين الخشونة ونعومة الملمس أثناء البناء، فتم صقل الحجر في مواضع عدة من الجدران الممتدة نحو الأفق العالي مثل حيطان معبد مخصص لمعانقة الفن.
لم تخلو جدران المتحف من الزينة المبهرة للقلوب، فعند تأملها يظهر لك أن النقوش الدقيقة المعقدة المحفورة على الحجارة تنتشر في مواضع عدة بتناسق مذهل للغاية، كما اعتمدت الزخارف الحجرية المستوحاة من زخرفة العصور الوسطى وعصر النهضة لإضفاء لمسة جمالية خاصة على المظهر الخارجي للمتحف، دون نسيان مجموعة من الخطوط الأفقية الممتدة عرضيا أبرزت السمات المعمارية للمبنى، مما منح الواجهة مشهدا بصريا رائعا للغاية.
تعد النوافذ الزجاجية الموضوعة في أعلى الجدران مكملا جماليا وضرورة لا مناص منها لتمكين المتحف من الحصول على إضاءة طبيعية، وتعلوها كجزء لا يتجزأ منها أقوس نصف دائرية زادت بهاء وتألقا، وتحيط به إطارات ذات زخارف بديعة، وقد وزعت النوافذ على جميع الطوابق بشكل مميز لا يخلو من لمسة فنية.
تمثل الأفاريز أهم خاصية جمالية تتسم بها واجهة متحف برادو، وهي تنتشر أعلى الجدران وتحيط بالنوافذ والأقواس، والأفريز هو شريط وعنصر معماري يمتد أفقي بحيث يشكل في حد ذاته زخرفة فائقة الروعة، ويعتبر أحد أهم عناصر العمارة في العصور الوسطة، ويعد الإفريز المتواجد أعلى الواجهة والذي كتب عليه اسم المتحف بخط منحوت ومحفور على الحجارة أشهر افاريز هذا المتحف.
تتنوع النقوش والزخارف في جدران متحف برادو من الخارج بين أشكال تعبر عن الفلسفة، ورموز تشير للفن والجمال، فيما تحمل بعضها إشارة على العلم، في حين خصصت نماذج أخرى منها لتذكر بالفنانين والمبدعين الذين أنتجوا معروضات المتحف.
يطغى اللون الرمادي على جميع الألوان التي اصطبغت بها واجهة متحف برادو، وقد اختير هذا اللون لما يبعثه من شعور بالسكينة، وكونه يندمج مع باقي الألوان التي تتصف بها الزينة مثل الذهبي والأصفر القاني بشكل متماه يضيف رونقا جماليا خاص على المشهد البصري، ويعطي المظهر الخارجي للمتحف طابع الهيبة والفخامة.
واجهته تتشح بالحجر الرمادي وتُعانقها الأعمدة ذات التيجان الأيونية، كأنها تستقبلك بحفاوة ملكية. سقفه المائل، ونوافذه ذات الأقواس العالية، يوحيان بعراقة ممتدة لا تُخطئها العين.
وعند حلول الليل، تُسلط الأضواء على تفاصيل هذه الواجهة بدقة مدروسة، فتُبرز الظلال خطوط الأعمدة، وتُضيء الزخارف الحجرية، فيتحوّل المتحف إلى تحفة معمارية لا تُضاهى، يُشبه معبدًا كلاسيكيًا تنبعث منه هالة من الوقار والسحر.
بوابات متحف برادو
- بوابة فيلاسكيز
يتوفر متحف برادو على ثلاث بوابة رئيسية، وتعد بوابة فيلاسكيز أشهرهم على الإطلاق، ويلج عبرها القادمون من شارع باسيو ديل برادو عند الجهة الغربية من المتحف، وينتصب أمامها مباشرة تمثال متقن النحت للرسام الاسباني دييغو فيلاسكيز.
شيدت هذه البوابة على الأسلوب المعماري الكلاسيكي جامعة بين روعة هندسة العصور الوسطى مع جمالية أسلوب عصر النهضة في فن العمارة، وقد زينت بالنقوش الدقيقة والمعقدة عند الأعلى، فيما تحيط بها أعمدة أيونية مزخرفة.
- بوابة غويا
لا تقل بوابة غويا شهرة عن بوابة فيلاسكيز، وهي المدخل الذي يعبرها ضيوف المتحف الوافدين عليه من شارع فيليبي الرابع عند الجهة الشمالية منه، وقد سميت بهذا الاسم احتفاء وتخليدا للرسام الاسباني فرانسيسكو دي غويا، وهي الأخرى نحت قبالتها تمثال لهذا الفنان المبدع.
على عكس بوابة فيلاسكيز التي اعتبر ولا تزال بوابة للمدخل التقليدي للمتحف، فإن بوابة غويا هي المعبر الرسمي الذي يدخل منه الزوار إلى متحف برادو، وقد صممت على طراز عصر النهضة بأقواسها نصف الدائرية، وأعمدتها الرشيقة المزخرفة، وتم تزيينها في الأعلى بأشكال نباتية وهندسية على نقوش منحوتة.
- بوابة جيرونيموس
استلهم اسم هذه البوابة من اسم الدير الواقع على الجهة الشرقية من متحف برادو والذي يطلق عليه دير سان جيرونيمو، وهي أخر مدخل تمت إضافته للمتحف، ورغم أنها شيدت في العصر الحديث إلا أنها بنيت على الطراز الكلاسيكي بمزج الحجر مع الخشب، وقد زينت بمظهر زجاجي جعلتها مسايرة للتطور المعماري المعاصر.
أقسام وقاعات متحف برادو

إن كان متحف برادو قبل دخوله يبهر الزوار، فإن تصميم القاعات داخله وتوزيعها المثالي يجعل عشاق الفن، فهي تظهر فخمة كأنها غرف بقصر ملكي من عصر النهضة، ومتناسقة بترتيب زمني للعصور الفنية أو تصنيف متتال للمدارس الإبداعية في الرسم والنحت.
- قاعة فيلاسكيز
يجد الزوار أنفسهم في القسم الأول من هذا المتحف الرائع أمام قاعة تعرض فيه أعمال الفنان الاسباني الشهير دييغو فيلاسكيز، وقد أطلق عليها اسمه، وهي ذات جدران قرمزية اللون داكنته، مما جعلها تنسج بشكل لا يتصور مع اللوحات الفنية المعروضة بها، وأشهر لوحة لاس مينيناس الموضوعة في وسطها.
- فضاء غويا
يعد القسم الذي تعرض فيه أعمال فرانسيسكو دي غويا أحد أبرز قاعات العرض في متحف برادو، وهو عبارة عن قاعة فسيحة تظهر كأنها فضاء مفتوح يبعث على الرهبة لما ينتج عن تفاعل الضوء مع ألوان اللوحات المعروضة، فيبدو مثل معبد فني تتحرك به الظلال في سكينة وهدوء.
- الجناح القوطي
يمثل القسم الخاص بعرض لوحات الفنانين الاسبان والأوروبيين التي تصور قمة إبداع العصر القوطي أحد أهم قاعات العرض بهذا المتحف، ويعرف باسم الجناح القوطي، وتوزع فيه اللوحات والمنحوتات بما فيها المرصعة بالذهب بشكل متناه الدقة منح مظهر كنيسة قوطية أكثر مما هو فضاء لمشاهة الأعمال الفنية.
- جناح الفنانين الهولنديين
يوجد قسم خاص في متحف برادو لعرض الأعمال الرائعة للرسامين الهولنديين والفلامنكيين، وهو عبارة عن صالة عرض متنوعة المحتوى بشكل يجعل المتواجدين بها يشعرون بالشغف، ويبلغون قمة الاستمتاع، ويضم لوحات مذهلة وجميلة لرسامين مبدعين مثل رامبرانت وروبنز.
- قسم المدرسة الإيطالية
لا تكتمل مكانة وقيمة متحف برادو الفنية فيما يتعلق المعروضات إنما لا توجد بها لوحات تنتمي للمدرسة الإيطالية في الرسم والنحت، ولذلك خصص قسم بأكمله لعرض أعمال فنانين مثل رافائيل وتيتيان، وهي لوحات فنية تدور حول الميثولوجية والدين.
- القاعات المتنوعة
تتوفر ضمن صالات العرض أيضا مجموعة من الأقسام التي تعرض فيها روائع الأعمال التي أنتجها الفنانون الإسبان وتتحدث اسبانيا خلال العصور الوسطى، وبعضها يتطرق لمرحلة مملكة قشتالة، وجميع هذه اللوحات المعروضة في هذه القاعات تتطرق للمسيحية وحياة القديسين.
تحتضن بعض القاعات أعمالًا ضخمة الحجم تملأ الجدران من الأرض إلى السقف، ما يمنحك شعورًا بأنك داخل المشهد ذاته، لا مجرد مشاهد. كما أن الطريقة التي تُنظم بها الأعمال، سواء فردية أو ضمن سلاسل، تسمح بتتبع التحولات الفنية بشكل بصري ممتع.
- قاعات المنحوتات
توجد كذلك صالات تعرض فيها لوحات ومنحوتات ضخمة تعلق على الجدران فتمنحها هيبة ورهبة وفخامة، وهي أعمال عظيمة المظهر تمتد من الأرض حتى الشقف، كما يشتمل المتحف على قاعات مخصصة لعرض الأعمال الفنية الزخرفية، وأخرى تقدم مجموعات من المخطوطات المحفوظة داخل ألواح معلقة على الجدران، فيما تزينت البقية بمنحوتات رخامية متقنة الصنع مع منحوتات خشبية أبدع أصحابها في ابتكارها.
تظل المتاحف أينما كانت هي الرافد الثقافي الأهم والذاكرة الحية التي تحفظ الإرث الفني والابداعي للشعوب والأمم، ومثل أشقائه فإن متحف برادو هو أحد أبرز الوجهات الثقافية الفنية العالمية، وأحد أهم الصروح المعمارية الاسبانية التي تستحق الزيارة والاستكشاف.