
قصر دولما بهجة: تحفة عثمانية في قلب إسطنبول
في عالم سريع التغير والتغيير تزول فيه حضارات وتقوم فيها دول خلف لأخرى زائلة، تظل بعض الأماكن صامدة ككنوز منسية تحمل في طياتها قصصا لا تنس، وهي مواقع عريقة تشكل تراث أمة ما، والذي يمثل بدوره نهرا من الذكريات تذكر مياهه المتدفقة الناس بقصص الأجداد، وذكريات الشعوب وثقافاتها، فالتراث حبل سميك فريد من نوعه يربط بين الماضي والحاضر، وهو يحمل في طياته ومكوناته عمق التجربة الإنسانية، والحكايات المذهلة بما فيها الخيالية والأسطورية، والموسيقى التي تلامس القلوب، مما يصنع منه كنزا يقوي الانتماء ويلهم الأجيال الجديدة للحفاظ على سجل الحضارة، ولا تخرج القصور التاريخية عن هذا المعنى كما هو شأن قصر دولما بهجة أو قصر السلاطين في تركيا.
لمحة حول قصر دولما بهجة

يعتبر قصر دولما بهجة رمزا شامخا للتاريخ والثقافة في تركيا، فهو أحد أبرز الصروح المعمارية الشاهدة على عظمة الإمبراطورية العثمانية، ويتميز بتفاصيله الهندسية المتألقة والجذابة، كما أنه يحتوي على أسرار الحياة الملكية، وحكايات عن حياة السلاطين، وله مظهر مهيب يعكس عراقته، مما سمح له أن يصبح في الوقت الراهن وجهة جذب سياحية بامتياز.
إن هذا القصر لا يمكن وصفه سوى أنه جمال متجسد فوق الأرض، وبناء ينطق التاريخ في كل ركن منه وزاوية، إذ يتمتع هذا البناء العثماني المميز بالأناقة والروعة، وقد امتزجت في عمارته المثيرة للإعجاب الأساليب التقليدية العثمانية مع لمسة المعمار الغربي والمشرقي.
يمتد قصر دولما بهجت على مساحة 45.000 متر مربع، ويتكون من 46 قاعة فخمة، و285 غرفة، وهي تضم غرفا ملكية وأخرى خاصة بالخدم، إلى جانب الحرملك وهو القسم الخاص بحريم السلطان العثماني، كما تتوفر به حمامات تركية تقليدية يصل عددها إلى 6 حمامات، ويوجد به متحف إسلامي ذو قيمة ومكانة هامة للغاية.
موقع قصر دولما بهجة بالتفصيل
يقع قصر دولما بهجت في شارع يحمل نفس الاسم بمنطقة بسكتاش على الجانب الأوروبي منها في إسطنبول، وهو متواجد على ضفاف مضيق البوسفور، وتفصله عن ساحة بسكتاش مسافة 10 دقائق سيرا على الأقدام، فيما يبعد عن قصر يلذز وميدان تقسم وشارع الاستقلال مسافة كيلومترين.
كيفية الوصول إلى قصر دولما بهجت
يمكن الوصول بسهولة للغاية إلى قصر دولما بهجة فور التواجد في إسطنبول، ويعد الترام أفضل وسيلة للتنقل داخل هذه المدينة التركية، إذ يمكن استخدام الصعود إلى الترام T1 من محطة السلطان أحمد، والذهاب بواسطته إلى محطة كاباتاش، وهناك بعد النزوال يتوجب على الزوار المشي لدقائق معدودة للوقوف مباشرة أمام قصر السلاطين هذا.
يوجد كذلك خط آخر للترام يمكن الصعود إليه للوصول إلى محطة كاباتش عبر الطريق الساحلي وهو Funicular F1، والذي يتم حجز تذكرته وركوبه من محطة ميدان تقسيم، كما أن القطار الجبلي المائل يعتبر وسيلة مميزة للتنقل والوصول إلى قصر دولما بهجة عبر استخدام خط F1، وذلك بالصعود إليه في محطة ميدان تقسيم.
أفضل وقت للزيارة
يعد الربيع والخريف الوقتان المثاليان للقيام برحلة ممتعة إلى قصر دولما بهجة، ورغم أن الصيف هو ذروة الموسم السياحي في إسطنبول، وقد يكون خيارا مفضلا لمن لا يشكل له الازدحام عائقا للاستمتاع بجولة سياحية إليه، فإن شهري مارس وأبريل يتميزان باعتدال الطقس وأجواء ربيعية ساحرة مع تفتح الأزهار الزاهية، مما يتيح للزوار القيام بجولات وسط الطبيعة الخلابة المحتضنة لروعة المعمار العثماني.
أما الجولات الخريفية خاصة في شهر شتنبر وأكتوبر فهي ذات طابع خاص للغاية، إذ تساهم الأوراق المتساقطة في جميع الأرجاء من القصر ومحيطه في إناء التجربة بأجواء مميزة خاصة عند الغروب.
ساعات العمل وأسعار الدخول.
يستقبل قصر دولما بهجة زواره من كل بقاع العالم على مدار العام بشكل يومي باستثناء يوم الاثنين حيث تغلق أبوابه، وهي تظل مفتوحة ما عدا ذلك من الساعة 09:00 صباحا وحتى الساعة 16:00 مساء، ويصل سعر تذكرة الدخول إليه قرابة 8 دولار للبالغين، أم الأطفال دون الخمس سنوات فيلجون إليه بشكل مجاني.
تجربة الزيارة
تتميز واجهة قصر السلاطين دولما بهجة بتصميمها المعماري المهيب، والذي يبرز الفخامة عبر الأعمدة المنحوتة والزخارف التي تعكس براعة الحرفيين العثمانيين، وتحيط بالقصر حدائق جميلة غناء، تتوزع فيها الأزهار والنباتات بأسلوب متناغم، مما يزيد من بهاء القصر ويضفي عليها جمالا طبيعيا أخاذا.
داخل القصر، سيبهر زواره بالغرف ذات جدران مزينة على أعلى طراز من خلال زينة اعتمد فيها على الطلاء بالذهب، إلى جانب أن أرضياتها فرشت بالسجاد الفاخر، تضاف عليها المصابيح التقليدية المعلقة، والتي تضيء المساحات الواسعة، مما يخلق رومانسية خاصة.
ومن المميزات الفريدة للقصر، احتضانه لمجموعه من المتاحف، والتي تعرض فيها كنوز فنية وقطع أثرية تعود لزمن ازدهار الإمبراطورية العثمانية، وهي تضم المقتنيات الملكية، والأسلحة التقليدية، والأزياء الفاخرة التي تعكس ذوق السلاطين وتاريخ وروعة العمارة العثمانية.
إن قصر السلاطين هذا هو نموذج معماري ذو تداخلات فنية متنوعة، إذ يمكن اعتبارها مكانا تلتقي فيها إبداعات التصاميم الشرقية مع الغربية، حيث تتداخل فيه الأنماط المعمارية المختلفة، مما يخلق بيئة بصرية ساحرة، وهي تتجلى في السقوف المقوسة، والنوافذ الكبيرة المزخرفة بالزجاج الملون، مما يجعل من كل غرفة بقعة لأسر الحواس والألباب.
ولن يغيب عن ذهن الزوار المشهد الأسطوري لمضيق البوسفور من على شرفات القصر المطلة على البحر، حيث يمكن الاستمتاع بإطلالة بانوراميا تخطف الأنفاس، فعبرها يتاح لهم رؤية التناغم المثالي للجمال الطبيعي مع الفن العماري، وفيها يمكنهم قضاء لحظات من الهدوء والسكينة، وكأن التاريخ متوقف بها رغم كونه يستمر في النبض والتحرك.
سبب التسمية
إن اسم دولما بهجة بالتركية ينطق طولمة باغجة والتي يقصد به حرفيا حسب المعنى العربي الحديقة المردومة، ويرجع سبب تسميته بهذا الاسم لكون شيد على أرض تم ردمها، لأن ضرورة البناء على الأراضي الشاطئية تقتضي هذه العملية.
قصر دولما بهجة منذ التشييد وحتى وقتنا الراهن
كان قصر طوبا قابي هو المقر السلاطين للحكام العثمانيين حتى مطلع العقد الرابع من القرن التاسع عشر، حيث قرر السلطان عبد المجيد الأول عام 1843م بناء قصر سلطاني جديد تعيش فيه الأشرة الحاكمة ويكون مقرا لتسيير أمور الدولة، فأعطى أوامره لبناء قصر دولما بهجة.
استغرق عمليات بناء قصر دولما بهجة ثلاثة عشر عاما كاملا، إذ بدأت أعمال تشييده عام 1843م، وانتهت أشغاله وانتقلت إليه السلطان مع حكومته وعائلته الملكية عام 1856م، ومنذ هذه اللحظة أصبح هذا القصر هو الواجهة الحداثية للإمبراطورية، خاصة وأنه صمم بمزج الأساليب المعمارية المختلفة بما فيها الطراز العثماني، والمعمار الباروكي.
عاش في قصر دولما بهجة في عصر الإمبراطورية العثمانية ستة سلاطين أولهم عبد المجيد الأول والذي قام بتشييده، والسلطان عبد العزيز، والسلطان مراد الخامس، والسلطان عبد الحميد الثاني، وهذا الأخير عاش فيه فترة من الزمن لكنه انتقل لقصر يلز لدواع أمنية، غير أم السلطان مخمس الخامس رشاد عاد ليقيم في قصر دولما بهجة، ومن بعده أقام فيه السلطان وحيد الدين محمد السادس والذي كان آخر السلاطين العثمانيين.
بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، استخدم قصر دولما بهجة من قبل الحكومة كمقر رئاسيا مؤقت، وقد كان مصطفى كمال أتاتورك ينزل به ويقيم فيه كلما قام بزيارة إسطنبول، وقد وافت المنية أتاتورك وهو داخل هذا القصر.
في ظل الدولة التركية العلمانية وبعد أن قام قصر دولما بهجنة بدوره كمقر رئاسيا لفترة من الزمن، تم نقل ملكية القصر إلى المؤسسة الوطنية للأثاث، والتي اهتمت به وأولت عناية كبيرة، ثم تحول في النصف الثاني من القرن العشرين ليصبح تحت إدارة مديرية القصور الوطنية التركية، وفي عام 2011 أصبح هذا القصر بشكل رسمي متحفا وطنيا.
المميزات الجمالية لقصر دولما بهجة

صمم هذا القصر بمزج الطراز الأوروبي ذو الأسلوبي الباروكي مع الطراز العثماني في العمارة، كما أنه احتوى على جمالية فن البناء الأنجلوسكي وتأثيرات العمران الإسلامي المشرقي، مما جعله منذ عام 1856م أحد أروع الصروح المعمارية العثمانية.
زينت جميع الأسقف في قاعات وغرف وحمامات وأقسام قصر دولما بهجة بطلاء الذهب، وهو يحتوي على ما يصل إلى 14 طنا من أوراق الذهب، مما يعكس الرغبة السلطانية في إبراز الفخامة والسلطة العثمانية.
تتوفر في قصر دولما بهجت سلالم كريستالية تم صناعتها بواسطة كريستال الباكارات مع النحاس والماهوغني، إلى جانب السجاد العثماني التقليدي، والأثاث الفرنسي الأوروبي الفاخر، مما رفع من قيمة جمال القصر داخليا، وأكد على الذوق السلطاني والالحاح في إظهار الجبروت الامبراطوري.
لا يسعنا في ختام رحلتنا هذه والتي تعرفنا فيها على قصر دولما بهجت الذي يعد أحد أشهر المعالم التاريخية والسياحية في إسطنبول، سوى أن نؤكد على أن الحضارة العثمانية بلغت في سلم المجد والازدهار والقوة درجات يصعب وصفها، وسيظل هذا القصر قائما ليذكر العالم بمدى السطوة التي وصلت لها الإمبراطورية ذات مرحلة تاريخية.