
مسجد السليمانية في إسطنبول: تحفة المعمار سنان وتاج القياصرة على القرن الذهبي
خلفت الإمبراطورية البشرية المختلفة أيا كان الأراضي التي تمتد عليها مآثر تاريخية تظل شاهدة على مدى الازدهار والمجد التي بلغته، ولا تتوقف عن كونها صروحا معمارية آية في الحسن والبهاء، بل هي شواهد حية على إرث حضاري صنع تنفيذا لرغبات ملوك وسلاطين أرادوا إظهار قوتهم عبر مباني تسحر العيون وتأسر القلوب والألباب، ومثل نظرائهم لم يتوانى سلاطين العثمانيين عن تشييد القصور والقلاع والمساجد التي حملت من الرهبة الرمزية مثلما احتوت من الجمال المعماري، وقد أبدع العثمانيون وتجاوز حدود الابتكار في فن البناء عندما أسسوا المساجد بتصميم مزجوا فيه بين أساليب معمارية مختلفة، وارتباطا بمعالم العصر العثماني الصامدة والتي لا تزال قائمة إلى يومنا هذا، نذهب وإياكم في رحلة استكشافية جديدة نتعرف من خلالها على جامع السليمانية في إسطنبول.
تقديم جامع السليمانية
ينتصب جامع السليمانية وسط إسطنبول شامخا في فخر كأحد الشواهد الحية على الازدهار الذي وصلت إليه الحضارة العثمانية، وهو أيقونة معمارية جمعت بين جمال تفاصيلها الهندسية وروعة إطلالتها على الواجهة البحرية عند مضيق البوسفور.
يتجاوز السليمانية كونه مسجدا للعبادة وحسب، ليكون إحدى أفخم الإبداعات التي تفنن أهل حرفة البناء في تشييدها خلال مرحلة الإمبراطورية العثمانية، وهو صرح حجري خالد يظل يذكر العالم بقوة وهيبة السلاطين العثمانيين، وأحد أهم الرموز الدينية والتاريخية في تركيا.
يمتاز جامع السليمانية بمساحته الفسيحة والتي جعلته يصنف ضمن أكبر مساجد تركيا، ولأنه صمم على الطراز الإسلامي التقليدي في البناء مع لمسات من الأسلوب البيزنطي تأثرا بآيا صوفيا، إضافة إلى بعض التفاصيل التي تحيل على قوة الملكية وهيبتها، فقد اكتسب شهرة واسعة داخل وخارج تركيا في العهد العثماني وخلال هذا العصر.
جمع مجمع مسجد السليمانية بين الجمال المعماري والوظيفة العلمية والعملية في ذات الوقت، فانتصب في شموخ ووقار كمكان للعبادة يريح النفس ويبعث فيها السكينة، وموقع لطلب العلم وتقوية العقل وتحصيل المجد المعرفي، علاوة على أنه الملاذ الذي يقصده الناس للعناية بالأجسام وعلاج الأجساد.
تعد قباب جامع السليمانية إحدى أهم مكوناته ومميزاته، فهي تمتاز بالضخامة مع لمسة معمارية فنية تظهر للعيان، كما أن مآذنه بنيت بشكل مختلف عن باقي مآذن مساجد الإمبراطورية، إذ يمكن القول بأنها تتميز برشاقة المظهر مع الارتفاع الشاهق حتى يكاد الناظر لها يتصور أنها سهم موجه نحو السماء لم يطلق سراحه من قوسه.
يستقطب هذا المسجد المهيب الملايين من الزوار على مدار العام، وهم يتوافدون عليه من المدن التركية ومن مختلف بقاع العالم رغبة في مشاهدة جماله المذهل معماريا، ولكونه يتيح لهم الاستمتاع بإطلالة ساحرة على مضيق البوسفور.
الجمال المعماري في مسجد ومجمع السليمانية
المآذن والشرفات

حينما يقف الزائر على مقربة من مسجد السليمانية، ويتطلع ناظرا نحو السماء تجذب انتباهه مآذنه الأربع الشاهقة الارتفاع وكأنها أشجار نخيل سامقة ممتدة نحو الأفق تكاد تلامس قممها عنان السحاب، وينم توزيعها الفريد على محيط الجامع على عبقرية هندسية لدى المصمم.
صممت شرفات المآذن بدقة متناهية على الطريقة العثمانية في البناء لتظهر الجانب الجمالي معماريا فيها، وقد تم تزيينها بالزخارف الإسلامية مع لمسة عثمانية زادتها رونقا بديعا، مما جعل المآذن بشرفاتها تتحلى بمظهر بصري فاتن يكتمل حسنه من خلال مضمونه الرمزي.
محيط جامع السليمانية
لا يقل محيط جامع السليمانية جمالا بل يزيد من بهاء المنظر العام له، إذ تحيط بهذا المسجد التحفة معماريا مروج خضراء مترامية الأطراف تكتمل بها الصورة البديعة إلى جانب مياها البحر التي تنفك تلطم الصخور القريبة منه، مما يصنع مشهدا بصريا فائق الروعة لدرجة لا تصدق.
جمالية التفاصيل في الجدران
يزداد تأثير التفاصيل الهندسية لمسجد السليمانية على الزائر عندما يتأمل جدرانه المتينة التي احتوت على نوافذ بزجاج ملون يتناغم مع الرخام الذي يعتبر الزينة الأساسية لهذا الجامع، كما ينبهر ضيوفه بالخشب المنقوش الذي بلطت به الأرضيات أو ازدانت به الجدران، دون نسيان روعة الأقواس وزخارفها والتي تعتبر الخاصية المميزة للعمارة الإسلامية التقليدية.
قبة المسجد الرئيسية
يسحر مظهر القبة الناظرين لها وهم وقوف تحتها داخل مسجد السليمانية، ففقد تم تدعيمها بأربعة أعمدة متينة البنيان، ذات ضخامة هائلة زادها سمكها هيبتها حتى استحقت لقب أقدام الفيل عن جدارة واستحقاق، وهي تزن 60 طنا، وتقف كنماذج صارخة على براعة الاتقان الهندسي في عصر الإمبراطورية.
الزخارف والنقوش
زينت هذه الايقونة المعمارية بالزخارف الأنيقة غير أن مصممها لم يعتمد الإكثار منها على عكس الرائج في باقي المساجد التي بنيت في الحقبة العثمانية، وإنما اكتفى ببعض النقوش والكتابات الإسلامية في مواضع مختلفة من مسجد السليمانية، ليجعل من بساطة التزيين وقلة التعقيد الزخرفي طابعا خاصا لهذا الجامع.
المدخل الرئيسي
يلج الضيوف إلى جامع السليمانية عبر مدخله الرئيسي المهيب، وهو عبارة عن بوابة عالية أحيطت بالأروقة المتسعة التي تمنح الضيوف شعورا بالرحابة، وفور تجاوزه تقع العيون على مكان مخصص للوضوء والذي يطلق عليه اسم الشاذرون، مما يحرك شعور الارتباط العقائدي لدى زواره.
الفناء الداخلي

يجد الزوار أنفسهم بعد الدخول إلى المسجد وسط فنائه الفسيح الذي تحتوي جدرانه على نوافذ زجاجية ملونة ومزخرفة، تخترقها أشعة الشمس لتضيء المسجد من الداخل في مشهد ساحر بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وقد زين المسجد من الداخل بالزخارف الإسلامية التقليدية بما فيها الكتابات والنقوش القرآنية مع عبر وحكم كتبت بخط أنيق.
المحراب الأبيض
يصل الانبهار أعلى مستوياته عند رؤية محراب مسجد السليمانية الذي لم يصنع من الخشب بل نحت بواسطة المرمر الأبيض، مما منحه مظهرا مهيبا للغاية، وقد زين بنقوش ذهبية تمت إحاطته بها، وهي عبارة عن تجسيد متناهي الدقة والاتقان لأوراق الأشجار خلال فصل الخريف.
المنبر الرخامي والمنبر الخشبي
يقف المنبر على مقربة من المحراب كأنه عرش ملكي في سدة الحكم وبلاط السلطان، لاسيما أنه شيد بواسطة الرخام، فانتصب كأنه تحفة أثرية وضعت للتجميل لا لشيء آخر، وبجواره منبر خشبي وقف عليه الواعظون والخطباء، وقد تم نحته هو الآخر بتصميمه لم يخلو من جمال وبعد نظر.
مجلس السلطان
واحتوى المكان حيث يقع المحراب والمنبران على مجلس خاص بالسلطان لا تفصله عنهما سوى عدة أمتار، وقد كان هذا المجلس هو الركن الخاص بالسلاطين العثمانيين الذين يفدون على المسجد من أجل أداء الصلاة مع الجماعة.
بلاط الجدران
إن كل مكون من مكونات هذا المسجد تم الاهتمام بجعله آية في الجمال، فقد غطيت الجدران من الداخل بالبلاط التركي المصقول علاوة على تزيين بعضها بالأخشاب، وقد صمم كل بلاط بشكل مختلف مع منحه لونا خاصا إما أن يكون أسودا أو ابيضا أو احمر ارجوانيا أو أزرقا، وهو الأمر الذي أدى إلى تناغم بصري يفتن العيون لشدة روعته.
ليس ألوان البلاط هي ما يميزه وحسب بل حتى الصور النباتية التي يجسدها فصارت الجدران بفضل ذلك مثل لوحات نباتية تأسر الأفئدة، إذ يمكن للزائر الاستمتاع برؤية أزهار مختلفة منحوتة على الجدران مثل البنفسج والاقحوان والتوليب، مما يجعل المسجد محاطا بالطبيعة من الخارج، ومزينا بها من الداخل.
البناء والتصميم
عندما يأمر أحد الملوك أو السلاطين أهل دولته بما فيهم مهندسو البناء بتشييد صرح معماري يجعل مهمته صعبة للغاية، فهم يدركون أن المبنى المراد تأسيسه وجب أن يكون لوحة فنية مكتملة الأوصاف، تجمع بين جمالية المظهر ورمزية الهيبة والقوة، وكذلك فعلوا مع جامع السليمانية.
بني مسجد السليمانية بأمر من السلطان العثماني الشهير سليمان القانوني، وقد أناط بهذه المهمة إلى أحد عباقرة فن البناء في عصره المعماري العثماني سنان، والذي كان عليما بخبايا العمارة الإسلامية على اختلاف اساليبها، فأنجز للسلطان المهيب صرحا صار مثالا يحتذى به، ومعلم يضرب به المثل.
وضع المعماري سنان أساسات مشروع بناء جامع السليمانية بحيث لا يكون مسجد للعبادة وحسب، بل مجمعا شاملا يضم مكانا للصلاة والتضرع وأداء المعتقدات الدينية الإسلامية، وقسما مخصصا لتقي العلم، بالإضافة إلى قاعات وغرف تقدم فيها خدمات اجتماعية مختلفة، وقد بدأت أعمال البناء فيه عام 1550م، واستمر العمل عليه سبع سنوات كاملة حتى عام 1557م.
مكونات مجمع مسجد السليمانية
يتكون مجمع مسجد السليمانية والذي أطلق عليه مصطلح “الكلية العثمانية من مسجد الصلاة والذي عرف باسمه المجمع ككل، ومجموعة من المدارس التي يتلقى فيها الطلاب العلم، ومكتبة تضم كتبا معرفية مختلفة ومخطوطات هامة، ومشفى متقدم في ذلك العصر يعالج فيه مواطنو الإمبراطورية، وحمام تقليديا عاما، وغرف عبارة عن مجموعة من المطابخ يقدم فيها الطعام لفقراء إسطنبول.
أبعاد جامع السليمانية
عندما تزور مجمع السليمانية تدهشك مساحته الشاسعة والتي تبلغ حوالي 20000 مترا مربعا، أما المسجد في حد ذاته فتصل مساحته إلى 59 مترا مربعا، وهو يسع قرابة 5000 مصل، ويمتاز صحنه أو فناؤه الداخلي بالاتساع إذ تقدر مساحة بقرابة 48 مترا مربعا.
تعد قبته التي شيدت في وسطه أبرز مكوناته المعمارية، وقد تم تصميمها على هذا الشكل تجسيدا لأساسات العمارة العثمانية في فن البناء، وهي ترتفع نحو الأعلى بعلو يصل إلى 53 مترا عن سطح الأرض، ويبلغ طول قطرها الداخلي حوالي 27.5 مترا، وقد احيط بحوالي ثلاثين قبة صغيرة.
رمزية المآذن والشرفات في جامع السليمانية
كان المعماري سنان دقيقا ويعمل بجد على تجسيد رغبات السلطان سليمان القانوني في إظهار قوته وسلطته، مما جعل مصمم جامع السليمانية يهتم بتخليد هذا لحاكم العثماني عبر مختلف مكونات المسجد.
لم يكن اختيار عدد المآذن أن يكون أربعة من قبيل الصدفة ولا رغبة في الابداع الهندسي من قبل المعماري سنان، وإنما هو استحضار لهيبة السلطان سليمان القانوني، فبعد كل شيء ترتيب هذا الامبراطور العثماني هو الرابع في سلسلة السلاطين الذين حكموا الإمبراطورية بعد فتح القسطنطينية، وهذا ذات ارتفاعات متفاوتة، ويصل علو اعلى علاها 76 مترا.
اكتفى المعماري سنان بأن يجعل لمسجد السليمانية عشر شرف بنيت بمثابة زينة لمآذنه الأربع، وهو رقم غير اعتباطي بالمرة، فهو يرمز لترتيب سليمان القانوني ضمن قائمة سلاطين الإمبراطورية العثمانية منذ تأسيسها وحتى لحظة تشييد المسجد.
المكتبة السليمانية
تعد مكتبة جامع السليمانية إحدى أهم الأقسام في المجمع الذي يضمه، وقد أنشئت بطلب ورعاية من السلطان سليمان القانوني، وقد كانت في البداية مجرد مكتبة صغيرة غير أنها تطورت مع السنين حتى أصبحت في الوقت الراهن من أكبر وأضخم المكتبات الإسلامية على المستوى العالمي.
تحتوي هذه المكتبة على مخطوطات نادرة وبالغة الأهمية يصل عددها تقريبا إلى 70 ألف مخطوطة، وتتنوع اللغات التي كتبت بها هذه المخطوطات بين التركية والعربية والفارسية، مما يحيل على أن السلاطين العثمانيين اعتموا بالعلم والمعرفة بشكل كبير، مما جعلهم يزودون هذه المكتبة بأي كتاب أو مخطوط تقع أيديهم عليه.
إن مسجد السليمانية هو أحد أعظم الإنجازات المعمارية التي خلفتها لنا الحضارة العثمانية، إذ يجمع بين الجمال الطبيعي والهندسي علاوة على مكانته الدينية الهامة، ولكونه أحد أهم مكونات مجمع السليمانية فقد احتضن واحدة من أكبر المكتبات الإسلامية في العالم، فلا يسعنا ونحن نسدل الستار عن مقالنا هذا سوى أن ندعو قارئها إلى ضرورة زيارة هذا الصرح التاريخي الخالد إن حدث وقام بالذهاب يوما إلى إسطنبول.