برج الفتاة أسطورة تاريخية تضيء سماء إسطنبول
لطالما اعتبرت الفتاة رمز الحياة الأول، وهي كذلك في ثقافات عدة تمثل رمزا للصبر، وتجسيدا للإبداع والطموح والعطاء والقوة، وفي كثير من الحالات ضرب بها المثل في النقاء والصفاء والسعي نحو تحقيق الأحلام سواء في عالم الخيال أو في الواقع المليء بالتحديات، وظلت الفتيات في كل حضارة منبع إلهام غزير للأساطير والقصص والملاحم الشعرية والروائية، وهو ما يعكس مكانتها المميزة داخل المجتمعات، وبالأخص عندما يكون الحديث عن الفتاة العذراء، فهذه الأخيرة بمثابة النهر الذي يسقي الفن، وتخلده المنحوتات، ويحتفى بها في النصب والمعالم التي تشيد إكراما لها، ولا مثال يحضر معنا تجسيدا لهذه الحقيقة أبرز من برج الفتاة في تركيا.
موقع برج الفتاة
يقع برج العذراء داخل جزيرة صغيرة عند مدخل مضيق البوسفور، ويمكن الوصول إليه انطلاقا من مرافئ منطقة أسكودار المقابلة له، وهو واحدا من أروع الأماكن الرومانسية في إسطنبول، كما أن موقعه المذهل يتيح لزواره الاستمتاع بمشاهدة إسطنبول عبر إطلالة فائقة الروعة.
عن برج الفتاة
يعتبر برج الفتاة المنتصب على إحدى جزر مضيق البوسفور في إسطنبول أحد أشهر الرموز الأسطورية، وهو أيضا تجسيد لمدى تقدير الأتراك لتضحيات العذارى، كما أنه نموذج للإبداع العمراني المنتصب في شموخ كواحد من أهم المآثر التاريخية في اسطنبول.
إن برج الفتاة هو معلم تاريخي يتميز بموقع استراتيجي داخل البحر، ويعتبر رمزا ثقافيا بالغ الأهمية في تركيا، كما أنه يصنف ضمن أفضل المواقع الرومانسية بالبلاد، إضافة لكونه يمتاز بعراقة تاريخية لا تتكرر، ففقد مرت عليه حضارات عدة بداية بالإغريق، ومرورا بالإمبراطورية البيزنطية، ووصولا عند العثمانيين.
يمثل برج الفتاة جزء هاما لا يمكن إغفاله ضمن مكونات الهوية الثقافية لسكان تركيا، فهو عبارة عن جسر يربط بين الماضي والحاضر، وقناة للوصل بين الخواص والعوام فيما يشبه بنيان يحمل في طياته تاريخا لا ينسى، وقصصا امتزجت فيها الحقيقة بالأسطورة.
اسطورة برج الفتاة
إن تسمية هذا البرج الشاهق في سماء إسطنبول ببرج الفتاة تعود لأسطورة سردها التاريخ على لسان العامة بين موضوعية حاول البعض نقلها، وزيادات وإشباع وتضخيم كما هو حال القصص الأسطورية، إذ بين جدران هذا البرج عاشت فتاة عذراء واحدة من أقسى قصص التاريخ.
كتبت قصة فتاة البرج التي سمي باسمها بدموع ملك كان يعاني من القلق بسبب نبوءة تشير إلى أن فلدة كبده ستُلدغ من ثعبان وتموت يوم عيد ميلادها، فغلبه الخوف وغريزة البقاء لديه، وثارت رغبته الإنسانية لحماية ابنته كما يجب أن يفعل أي أب.
قرر الملك عزل ابنته الوحيدة داخل برج منتصب على إحدى الجزر القريبة من بحر مرمرة في يوم ميلادها كي لا يصيبها أي أذى، غير أن جهوده باءت بالفشل، إذ حدث ما لم يكن متوقع، فوصل إليها ثعبان كان مختفيا أو مختبئا داخل سلة للهدايا، فتحققت النبوءة للأسف، وماتت الفتاة داخل حصنها عفوا سجنها.
نظرة تاريخية
يعود تاريخ بناء برج الفتاة إلى عصر الاغريقي عندما كانوا يسيطرون على منطقة الأناضول، إذ ينسب إليهم تشييده خلاله القرن الخامس قبل الميلاد، وتذهب أغلب الأبحاث والدراسات إلى أن الامبراطور الأثيني ألكيبيادس هو من أمر ببنائه أول مرة، وذلك من أجل التحكم في حركة مرور السفن عبر مضيق البوسفور من خلال جعل البرج نقطة مراقبة.
خضع برج الفتاة خلال عصر الإمبراطورية البيزنطية في ظل حكم الامبراطور مانويل الأول كومينينوس والذي امتد حكمه بين 1143 و1180 إلى إعادة بنماء وإصلاح بشكل شبه كلي، إذ أصبح البرج منذ تلك اللحظة حصنا دفاعيا، وتجلى ذلك بالملموس من خلال السور الحجري الذي أضيف له، زيادة على ربطه مع البر بواسطة سلسلة حديدية ضخمة للغاية.
أما في عهد الإمبراطورية العثمانية فقد قام السلطان محمد الفاتح بعدة عمليات ترميم وبناء لبرج الفتاة، كما أن هذا الأخير استخدم من قبل السلاطين العثمانيين كحصن عسكري وموقع دفاعي، وقد مرت عليه خلال فترة حكهم العديد من الأحداث أبرزها الزلزال الذي ضرب إسطنبول عام 1509، والحريق المهول الذي نشب في الجزيرة حيث يقع البرج عام 1721.
أبعاد وطوابق برج الفتاة
تبلغ مساحة برج الفتاة قرابة 150 مترا مربعا، ويصل ارتفاعه إلى 23 مترا، وهو يقع على جزيرة صغيرة تحمل نفس الاسم وتقدر مساحتها بقرابة 1250 مترا مربعا، أما قاعدة البرج فقطرها يبلغ 9 أمتار، وقد شيد البرج بجدران ذات متانة قوية جدا، إذ يتراوح سمك كل منها بين متر ونص ومتران.
يضم 6 طوابق تربط بينها سلالم داخلية، فيما يرتفع كل طبق عن الآخر بحوالي 3 إلى 4 أمتار، فالطابق الأول عبارة عن مدخل، وقد شيد على الصخور ليكون بمثابة قاعدة يثبت عليها هيكل البرج، فيما يمثل الطابق الثاني والثالث ما يطلق عليه بالطوابق الوسطى، وهي مساحات معيشية تضم غرف للإقامة مع مخزن وموقع مراقبة.
تتكون الطوابق العلوية من طابقين، أحدهما مخصص للتخزين والإقامة، فيما الأخر عبارة عن مكانا للاسترخاء، إذ تتوفر به شرفة زجاجية، مما كان يتيح للمقيمين به الاستمتاع بإطلالة بانوراميا على الواجهة البحرية، ويبقى الطابق السادس والأخير وهو عبارة عن منارة في قمة البرج، كانت تستخدم لمراقبة وتوجيه السفن.
تجربة زيارة برج الفتاة
يحتوي البرج على غرفتين رئيسيتين كانتا تستخدمان كمقر إقامة للوافدين عليه خلال العصور الغابرة، ولم يتوفر على غيرهما كمساحات سكنية نظرا لكون مباني العهد القديم ذات مساحات داخلية محدودة بسبب قلة التقنية والموارد، مما يجعل الأبراج بشكل عام تستعمل لأجل الحماية والتخزين او المراقبة.
يتوفر به كذلك مطبخ وحمام بسيطان، فبعد كل شيء كان العائلات الملكية تفد عليها مرات قليلة خلال السنة، وتحيط بالبرج ساحة ذات مساحة شاسعة تتميز بإطلالة رائعة على مياه البوسفور، كما تتيح للمقيمين أو الوافدين عليه إمكانية الجلوس والاستمتاع بالمناظر الطبيعية الخلابة.
تضم هذه الساحة مساحات خضراء مصممة بشكل جميل وجذابا، مما جعلها ملائمة تماما للاسترخاء، كما تخترقها مجموعة من الطرق المخصصة للمشي والتنزه، مما يجعله من زيارته فرصة للسير وسط الأجواء الطبيعية.
يشتمل البرج كذلك على منصات للمشاهدة تمنح زواره فرصة مشاهدة إسطنبول عبر إطلالات رائعة على مضيق البوسفور، مما يخلق جوا مبهجا ممزوجا بنسيم البحر، وقد كانت هذه المنصات تستخدم من أجل المراقبة البحرية في الزمن الغابر.
يوجد في البرج بابان رئيسيان لدخول الزوار، وثماني نوافذ توفر إضاءة طبيعية تسمح بدخول أشعة الشمس إلى داخله، وتعتبر هذه النوافذ بمثابة نقطة استطلاع تطل مباسرة على المياه المحيطة بالجزيرة حيث يقع البرج.
تتزين الجدران الداخلية للبرج بنقوش معمارية بيزنطية متميزة تتضمن تشكيلات هندسية وزخارف مستوحاة من الثقافة المحلية الرائعة آنذاك، وهذه النقوش تضيف لمسة فنية جمالية على البرج، وتعكس التراث الغني لمنطقة الأناضول.
تطغى بساطة التصميم على مظهر البرج الداخلي، ومع ذلك فمنظره العام يتميز بالأناقة، وقد استخدم الحجر الطبيعي في بنائه، مما زاده جمالية، كما أن الأسقف ترتفع عن الأرضيات بشكل مثالي، مما يجعل الزوار يشعرون بالاتساع والراحة.
يتميز برج الفتاة بتصميمه الأسطواني وهو خاصيته المميزة، وهو ما ساهم في أن يتألق البرج وكأنه نجم بارز في سماء الجزيرة، وتزيد الأمواج المتلاطمة بالقرب منه من روعة المنظر، مما خلق مشهدا بحريا ساحرا.
يتمتع هذا البرج بقاعدة عريضة ترتفع إلى الأعلى، مما أضفى عليه توازنا جميلا ومثيرا للإعجاب، بالإضافة إلى الرونق الخاص الذي تمنحه له شرفاته الصغيرة، والتي تتيح للزوار فرصة مشاهدة مضيق البوسفور من زاويا مختلفة، مما يجعلها خيارا مثاليا لمحبي تأمل جمال الطبيعة المنصهر مع روعة مياه البحر.
تتباين ألوانه بين الأبيض والرمادي الطبيعيان، وهو الشيء الذي يبرز نقوشه وينسجم مع البيئة الطبيعية المحيطة به، ويجعل من المكان مناسبا للباحثين عن تهدئة الأعصاب، كما أن هذه الألوان تساعهد على إراحة العيون بشكل لافت للانتباه.
يظهر البرج كلوحة فنية جميلة ذات مظهر جمالي خاص عندما تتسلط عليه أضواء الشمس، أو عندما توجه نحوه الأضواء الليلية، مما يخلق أجواء رومنسية مناسبة لالتقاط الصورة، وبالأخص المظهر الساحر للبرج عندما تنعكس ظلاله على الماء.
يوجد ببرج الفتاة مقهى ومطعم يمكن للزوار قصد أحدهما للاستمتاع بتناول وجبة تركية أو لاحتساء مشروب قهوة أو شاي أو حتى نبيذ، ويوفر كلاهما للضيوف مساحة للاسترخاء ومشاهدة الواجهة البحرية، كما أنهما مثاليان لالتقاط الصور التذكارية.
كيفية الوصول إلى برج الفتاة
تتعدد طرق الوصول إلى هذا المعلم التاريخي الفائق الروعة، وأنسب وسيلة يمكن استعمالها هي القوارب البحرية، إذ يجب التوجه إلى مرفأ أسكودار البحري، ومنه يتم حجز تذكرة الذهاب إلى جزيرة البرج.
أما بالنسبة لمن يتواجدون في منطقة بشكتاش أو في أي موقع من اسطنبول، فيتوجب عليهم استخدام الترام أو الحافلة أو سيارة الأجرة للوصول إلى منطقة اسكودار، ومن هناك يمكنهم الصعود في أحد القوارب البحرية في المرفأ البحري، ثم التوجه نحو جزيرة برج الفتاة.
أفضل وقت للزيارة
يعتبر فصل الربيع الوقت المثالي للقيام بزيارة ممتعة إلى برج الفتاة، فالأزهار فيه تتفتح وتزداد المتعة في الأجواء من ناحية اللطافة، كما ان درجات الحرارة تكون معتدلة، مما يجعل التجول حول البرج والاستمتاع بالمناظر الطبيعية المحيطة أمرا مريحا مع نسيم بحري خافت يداعب المسام.
من جهة أخرى يعد فصل الخريف من أنسب الأوقات للذهاب واستكشاف برج الفتاة، ففيه تلبس الأشجار الألوان الدافئة الممزوجة مع نسيم البحر الطيف، مما يضيف لمسة سحرية إلى المناظر، كما أن الطقس يكون معتدل، بالإضافة إلى أن الازدحام يتقلص في الخريف.
مهام وأدوار برج الفتاة
لعب برج الفتاة على مر العصور وخلال مختلف الحضارات أدوارا مهمة للغاية، فقد استخدم كبرج مراقبة لأغراض عسكرية، كما أنه مثل موقعا ذو أهمية كبرى في تحصيل الضرائب من السفن، وظل طيلة قرون متلاحقة مكانا تقصده العائلات الملكية من أجل الاسترخاء.
بلغت أهمية برج الفتاة حدها الأقصى عندما تم استخدامه كمستشفى للحجر الصحي خلال انتشار الأوبئة، إذا كان يرسل إليه المرضى ليتم عزلهم وسط البحر، ومن جانب آخر استخدم البرج منذ تشييده وحتى مطلع القرن العشرين كمنارة بحرية، وقد استفاد منه صناع السينما في العصر الحديث كموقع لتصوير المشاهد التاريخية في الأفلام، وأصبح في العقود الأخيرة معلما سياحيا شهيرا في مضيق البوسفور.
يعد برج الفتاة رمزا تاريخيا وسياحيا بارزا في تركيا، وهو تجسيد للجمال المعماري في إسطنبول، كما أنه موقع مميز لقضاء لحظات لا تنس بفضل تواجده في مضيق البوسفور، كما أن اسطورته رفعت من قيمته ومكانته، وعموما فهو يمثل تجربة قيمة تذكرنا بتاريخ مر ولن يعود، تاريخ هو أساس ما نحن عليه حاليا، تاريخ أسس هويتنا ولا يجب أن ينسى.